يوم مشيتُ بين الورود سعيدةً في شوارع أوروبا

لم أكن أعرف عن أوروبا أكثر مما أراه في التلفزيون: مراكبٌ غير شرعيّة يغرق ركّابها، وقارة عجوز شعوبها تشعرُ بالتفوّق.
كنتُ أسمع قصص نساء عربيات، يحلمن بالحرية، فيسافرن إلى أوروبا، هرباً من جحيم عائلاتهنّ وحيواتهنّ.
لم تكن لديّ أي توقّعات، إلى أن أتيحت لي الفرصة، وزرت أوروبا، ففاجأتني: لا بجمالها أو حضارتها، بل بنمط حياة جديد ومختلف، لم أختبره أبداً.
سافرت وأنا أحمل الكثير من الأفكار النمطية والخوف. كنتُ أشعر برهبة زيارة مكان جديد، لا أعرف فيه أي أحد. تدريبٌ مع جهة هولندية وكلّهم أجانب. لا يوجد أي شخص عربي أعرفه هناك.

إلى جانب شعوري بثقل التجربة عموماً، بالرغم من أنها كانت مؤقتة، جالت في رأسي الكثير من الأسئلة: هل سأواجه عنصرية - كما أسمع؟ امرأةٌ مسلمةٌ محجبة آتية من دولة نامية، فما المتوقع؟ هل سأشعرُ بأنني منبوذة؟ هل عليّ أن أتحاشى الحديث مع أي شخص، لآمَن العواقب؟ إن احتجت لمساعدة من سأسأل؟
ولكن أسئلتي تلاشت، وعرفت أن خوفي كان مجرّد أوهامٍ.
في البداية، سيطر عليّ ذلك الإعجاب النمطي والمتوقّع بأوروبا. أعتقدُ أنّه يصيب أي شخص يزور تلك البلاد، بعدما سمع عنها في الكتب والأفلام. سحرتني الأماكن وتفاصيل المدن باختلافاتها. أزهارٌ، وورودٌ، ومبانٍ أثرية. كلّ شيء يبدو مثالياً، منظّماً، ونظيفاً. رأيت الناس يلتزمون بإشارة المرور. لم أرَ أعقاب السجائر في الشارع. لا أحد يتدخّل في خصوصية الآخرين. لم يلتفت أحد لأي شيء يخصني، لا مظهري، ولا جسدي، ولا حجابي، ولا حتى لغتي.
جزء مني شعر بالخيبة. كان هناك سؤال يتردّد في داخلي "هي دي أوروبا يعني؟ لو أتيح لبلادنا بعض النظام والخصوصية ألم نكن بدورنا من أعظم بلدان العالم؟"
لكن ما أبهرني كان اختباري لمشاعر جديدة بالكامل، لم أعرفها في حياتي. مشاعر بالحرية والأمان. شيء لم أختبره في مصر أو عند سفري لبعض الدول العربية، كامرأة تعاني يومياً من كلّ أنواع التدخّل في حياتها، بدءًا من الأهل في المنزل وصولاً إلى المارة في الشارع.
اعتدت طيلة حياتي أنّ وجودنا كنساء عربيّات - في أي فضاء عام أو خاص - أزمة وفتنة. طيلة حياتي أشعر أن جسدي الأنثوي هو أصل كلّ الشرور.
هناك في أوروبا، اختبرت للمرة الأولى في حياتي، التحرُّر من ذلك العبء. لم أشعر بثقل النظرات. تحرّرتُ من عيون تتفحّصني لأني لا أتوافق مع توقعاتها، أو حتى لكوني محجبة ومن ثقافة مختلفة.
اختبرت للمرة الأولى شعور أن أمشي في الشارع، من دون أن تلاحقني النظرات، أو التعليقات السخيفة. لم يطلب مني أحد أن أخفي شعري تحت حجابي. لم أشعر أنني "عورة" وعليّ التواري والاختفاء. لم أشعر بأن هناك عيوناً تترقّبني لتتصيد أخطائي. لم يضايقني أحدٌ بكلمة. كلّ شخص "في حاله". هدوءٌ تام وتقبّل.
على بساطته، كان ذلك أمراً عظيماً بالنسبة لي. لم أشعر بالمضايقة، إلا عند مصادفتي بعض الأشخاص من أصول عربية. عرفوني من حجابي الذي يشير إلى هويّتي الإسلامية العربية. تبعني شاب مغربي يرغب بالتعرف عليّ. وعندما لم أعره اهتماماً، انتظرني خارج المكان الذي كنت أقصده.
صادفتُ أطفالاً يتحدثون بلهجات مغاربية وشامية، أخذوا يصيحون حولي "حرام، حرام" لأني كنتُ أحمل سيجارة. يمكن أن أحمل سيجارة في القاهرة، ولا ينظرُ لي أحد باستنكار.
تعجبتُ من أن محرمات بلادي الساخطة على الحريات، قادرة على ملاحقتي إلى أبعد نقطة في العالم.
باستثناء هذين الموقفين، شعرتُ أنّني حرّة تماماً. وكان الأمر أشبه بأن أتجرّد من ماضيَّ، أو أن أبدأ مرة أخرى من دون أي هزائم.
كنتُ أسيرُ في الشارع ليلاً من دون أي استنكار من أي أحد، أتمدَّدُ في حديقة عامة من دون أن أراعي العيون، أو أخشى أن يفهمني أحدهم خطأ.
خرجت لشراء الطعام، بهدوء وبساطة، من دون أن أحسب أي حساب لأي شخص داخل المنزل أو خارجه. رحلةٌ مدتها عشر دقائق فقط، لكنها كانت كافية لتشعرني بالسعادة القصوى، لأني لم أتعرّض للوم أو الأذى على وجودي أو حركتي.
مشيتُ بين الورود، وفي الهواء الطلق، وأنا أشعر بأني ولدتُ من جديد. هنا، لا عادات تُلاحقني، لا تقاليد تُقيدني، ولا أحكام تُخيفني، ولا قيود تُكبلني. أنا حرة وقادرة على البدء من جديد، على بساطة الأمر وتعقيده في آن.
كنتُ سعيدة. شعرتُ بسعادة عارمة. كنتُ إنسانةً حرة، وعلى طبيعتي. جلستُ على الشاطئ، ولم يَرمني أحدٌ بنظرة سيئة. كان كلّ الناس هنا يلعبون. كلنا كنّا نلعب، ونمرح، ونبتسم، ونستمتع بالحياة، كلّنا. لا تفرقة، ولا سخافات، ولا محاولات للتعارف، لا تحرّش، كما يحدث في مصر.
هذه هي الحرية إذن؟ ما أجملها من شعور. تساءلت لم لا نختبرها في بلادنا؟ كيف يمكن لحقوق بديهية وعادية، أن تجعلني على هذا القدر من السعادة؟ قالت لي زميلة كولومبية: "بديتِ سعيدة جداً على الشاطئ، ألا تفكرين بترك بلادك والبقاء هنا؟" أدهشني تعليقها، لأنّي أدركتُ لأيّ درجة بدوتُ سعيدة؛ لدرجة جعلت فتاة بعيدة عنّي، ومن ثقافة أخرى، تسألني سؤالاً بهذا العمق، وهي لا تعرف عنّي الكثير.
رغم ما شعرت به من سعادة تمنيتُ أن تطول، لكنّ المرارة حلّت من بعدها. لم أستطع إلا أن أشعر بالأسى على حياتنا كنساء في "هذا الشرق الحزين". حزنتُ على عمري وأعمار نساء كثيرات تضيع هباءً، ونحن نعيشُ مُلامات، خائفات، مُكبلات، لأنّنا "شرف" عائلاتنا.
حزنتُ لأن حرية حركتنا، من دون أن نحسب ألف حساب لكلّ خطوة من خطواتنا، هي ترفٌ عظيم في بلداننا، ولكنها حقّ بديهي حين نبتعد عن موقعنا على خريطة هذا الشرق قليلاً.
 

مدونتنا