يوم أصبحتُ سارقة!

قرّر أبو كامل التوقف عن استخدام سيارته لنقل الطلاب إلى المدرسة. اضطرّ أهلي إلى تغيير وسيلة النقل. صرتُ أذهب بباص مدرسيّ. سائق الباص رجل لطيف، شديد التوتّر وقليل الكلام. تتحكّم زوجته بكل تفاصيل حياته. كثيرة الكلام، تبتلع تسعة أشخاص في شهقة واحدة. تفاصيل لن تُغيّر في القصّة شيئًا. المهمّ. كنتُ في المرحلة الثانوية. اعتاد والدي في نهاية كلّ شهر اعطائي إيجار الباص. أقوم أنا بدوري بإعطائه لسائق الباص. عملية دفع سهلة وبسيطة. لم يسبق لي أن سرقت شيئًا من بنطال والدي. أبدًا. لكن أعترف بمحاولاتي المتكرّرة لسرقتي، لسرقة مدّخراتي. المهمّ. في مرّة، أخبرني سائق الباص أن إيجار الشهر لم يُدفع. كيف حصل هذا؟ لم ندفع. أخبرتُ والدي. دفعنا. أخبرتُ السائق. لم ندفع. حسنًا، ماذا أفعل؟ لا شيء، اركني على جنب سآتي لزيارة والدك اليوم. عظيم.

والدي، خالتي، سائق الباص وأنا. أربعةٌ في زاروب صغير أمام بوابة البيت. وقفنا في دائرة. توسّطت أنا أبي وسائق الباص. خالتي وقفت في نقطة مقابلة لي. بدأ الحديث. بدأت المفاوضات. أخذتُ وضعيّة الاستماع. أخذت خالتي وضعيّة الهزّاز: تهزّ برأسها موافقةً مع نهاية كل جملة. أبي يبتسم. سائق الباص يتحدّث. لم ندفع له. أبي متأكّد أنه أعطاني الايجار لأدفع. سائق الباص يُصرّ. أبي يُصرّ. سائق الباص يتحدّث: "بالنهاية يا بو علي، يمكن انت عطيتها والبنت نسيت. يمكن احتاجت شغلة عملة وصرفتهن. وبتكون نسيت (يبتسم لي). ما منعرف. أولاد". ضحك أبي. هزّت خالتي برأسها في حركة معروفة للطبطبة. سكتت. انتظرتُ أن يغضب أبي. لم يغضب. ابتسم وقال: لاه، شو هالحكي. مش مشكل على كل حال. تفضل، هيدا الايجار. صُلح؟ صُلح. فُضّ الاجتماع.

 خرج الجميع راضيًا.

إلاّ أنا.

خرجتُ بتُهمة: سارقة.

لم نناقش الأمر في البيت. لم يُعاتبني أبي. لم تسألني أمي خلسةً عمّا إذا كنتُ قد تصرّفتُ بالمبلغ. نسيَ الجميع القصّة. إلا أنا.

لا، لم أسرق. لم أكن بحاجة إلى المال. لم أستطع نطقها عاليًا. لاحقني عار اللحظة. لاحقني الصمت الذي أجبرت نفسي عليه. لم أنفِ التهمة عنّي. لم أنطق بكلمة. استعضتُ عن الكلام بمزيد من التهذيب. اعتقدتُ أن نسخةً أكثر تهذيبًا ستحميني في مرّات مقبلة. نسخة أكثر استهتاراً بالمال ستحميني. أكثر تعفّفًا ستحميني. تعقّدت علاقتي بالمال.

|||

لا ألعب دور الضحيّة. لكن صمت تلك اللحظة كلّفني عمرًا. عمرٌ من الشعور بالعار من المال. عمرٌ من غضّ البصر عن احتياجاتي. بعد الحادثة، تعاظم شعوري باللا-حاجة إلى المال. كان الأمر بديهيًّا بالنسبة إلى الجميع. أتساءل أحيانًا، ماذا لو كان أخي في هذا الموقف بدلاً منّي؟ هل كان والدي ليحلّ المشكلة عبر ابتسامة صغيرة وتعويض المبلغ على السائق؟ هل كان سيمرّ اليوم من دون استجواب عائلي داخليّ لأخي؟ لا أظنّ.

بدا لي كأننا، نحن الفتيات المهذبات، نولد غير مكترثات بالمال. لا نحتاج إليه. مكتفيات في بيوت أهالينا. لا نحتاج لأساليب ملتوية للحصول عليه. نرفضه، حتى لو توفّر لنا. نسعى إليه، ربّما، عبر السعي إلى زوجٍ مُقتدر. لكن نحتفظ بالسرّ لأنفسنا، وإلاّ سيُكلّفنا هذا الاعتراف حمل صيت الماديّات. يقترنُ تهذيبنا بالتنزّه والترفّع عن المادّة. لا نحتاجها. ماذا سنفعل بها؟ مشروعٌ المال الذي يأتينا من أب، أخ، زوج... هم أولياء أمورنا. لدينا أولياء أمور مسؤولون عنّا. يحسبون لنا، يصرفون علينا. ومن عرفت منّا تدبّر أمرها، وجب الحذر منها. ربما يجعلها المال تنحرف. تتمرّد. أخذني كثير من الوقت للربط بين الفعلين: الانحراف وكسب المال. لا أعمّم. ولكن هذا موجود، ولو بأشكال ومستويات مختلفة. لا تنحرف من تعود في نهاية اليوم لوضع مالها بين يدي وليّ أمرها، والدتها أو والدها أو أطفالها... ولا عيب في الفعل. لكن هذا يحميها من الصيت. لأنها تستخدم مالها لهدف. لأنها تسعى إليه لسبب أسمى: العطاء. ليس لنفسها. تنحرف تلك التي تستقلّ كاملاً، عبر التصرّف بمالها من دون العودة لأحد. تلك التي تستخدم المال للعيش. وهذا صحيح. يُتيح شعور ممارسة العيش من دون حاجة لأحد بفعلِ الكثير، وتجاوز الكثير والتقدّم كثيراً. الاستقلاليّة المادية راحة.

 راحةٌ من ثقل الكلام المحبوس في داخلنا. يعدم المال خوفنا من الصراخ بوجه أحدهم. ماذا سيحصل إن صرخنا وتمرّدنا؟ سنُطرد من البيت؟ لا بأس، سنتصرّف. لأننا قادرات على التصرّف.

 راحةٌ من صمت طويل أمام العنف. يعدم المال خوفنا من نطق كلمة لا. ماذا سيحصل إن رفضنا؟ سنجوع؟ لا بأس، سنتصرّف. لأننا قادرات على التصرّف.

 يُسقط المال عنّا الأدب. يُسقط المال عنّا التبعيّة. ومع اسقاط الأخيرة نتحرّر. يهبنا المال كلمة سحريّة، هي: لا. وهذه الكلمة نقصُ تربية. البنات الجميلات المهذبات يسمعنَ الكلام. لا يتمرّدنَ ولا يقلنَ: أنا حُرّة. ستكون ضريبة الحرية أخفّ عندما تكون المرأة قادرة ماديًّا. يصير التحرّر أسهل. تصير قلّة الأدب أيسر. وهذا ما لا يريده لنا الكثيرون.

|||

أجلس في منتصف الطريق. هزيلة متشائمة. تتنازعني نسختين منّي. تشدّني امرأة قوية قادرة ماليًّا إليها، ومن الجهة الأخرى تشدّني فتاة مهذبة اعتادت على أمان السند. عندما تقع تجد من يلتقطها. تحاول كل منهما كسب قلبي. 

أجلس أنا في منتصف الطريق، أنظر إليهما، وأتأمّل في أكوام الجثث المرميّة من حولنا. هذه الجثث هي محاولاتي، نسخي الهجينة التي حاولتُ بعث الحياة فيها. لكن لا مجال للعب في منطقة رماديّة هنا. لا بُدّ من الاختيار. 

لا أعرف متى أكفّ عن المقاومة. أميل مرّةً إلى الأولى، ومرّات كثيرات إلى الثانية. أخاف خسارة الطفلة المهذبة وأرغب بشدّة أن أصير تلك المرأة القادرة المتمكّنة. أعرف أن تحصيل المال قادرٌ على جعلي كتلة غريبة. لا أعرف ماهيّتها. كائنٌ يختلف عمّا كنته طوال سنوات. 

يؤلمني ترك الفتاة المهذبة في منتصف الطريق. أمضينا العُمر سويًّا.  لكن أنا غاضبة. وأعرف أنّ وحدها المرأة القادرة ماديًّا ستمنحني قدرة البصق في وجوه الكثيرين. لكن أخاف. أخاف الفعل. أخاف أن أفقد الحب إن ربحت المال. أخاف أن أخسر الكثيرين بعد أفقد حاجتي لهم، وبعد أن يفقدوا تبعيّتي لهم. أخاف أن يتوقف الحبّ مع تدفق المال.

 

مدونتنا