من يكتب قصيدة حبّ لبطّة؟

كم كنتُ أشعر بالأسى على نفسي، في العشرينات. أُحِبّ ولا يحبونني، وأمضي الوقت أتخيّل لحظة الوصال المنتظرة مع رجل لم يسمع بوجودي أصلاً.

أعتقد أنني حطّمت الرقم القياسي بالحبّ من طرف واحد، ويشمل ذلك محاولات لفت انتباه فاشلة، وعلاقات حبّ ملحميّة في رأسي مع نجوم سينما، ومشاهير، وشخصيات كرتونية.

لم أكن يوماً "تلك الفتاة". الفتاة التي تُحَبّ. لأن "الحبيبة" لها شكلٌ معيّن، ولم يكن ذلك الشكل شكلي، أو هكذا فهمت.

لم أكن المرأة التي تُكتبُ لها قصائد الحبّ، فتزيدُ كاظم عشقاً، وتسبّب له نوبات جنونِ (الكسرة تُلفظ ياءً، كما في الأغنية الشهيرة).

لم أكن عصفورة قلب أحد، يا عزيزي نزار. ربما أكون طيراً آخر؟ دجاجة، أو نعامة، أو بطّة. من يكتب قصيدة حبّ لبطّة؟

كلّ ما حولي كان يهمس لي: لا تطلبي أكثر مما تستحقّين. لا تتوقّعي ما لن يأتيكِ. اقبلي بمصيرك  كامرأة "درجة عاشرة" (الكاتبة لا تتبنّى تصنيفنا كنساء كأنهنّ قطع أثاث، لكن التوضيح ضروري لمن لا يلحظون السخرية).

أن نكبر في مجتمعات تقدّس الشكل الخارجي، تجربة عنيفة بكلّ المقاييس، تُقوْلِبُنا جميعاً، نساءً ورجالاً. ولكنها تهشّمنا كنساء، من الداخل، وتُدمِّر مفاهيمنا الفطرية عن الحبّ.

نمتصّ كنساء كميات هائلة من الشعور بالعار، والذنب، وكراهية الذات، بناءً على مكانتنا المفترضة على "سلّم الجمال". نفهم، بطريقة أو بأخرى، لا بل بكلّ الطرق الممكنة حقيقةً، ومنذ سنوات طفولتنا الأولى، أن علينا ألا نكون أنفسنا، لكي نكون محبوبات ومرغوبات.

فهمت أن عليّ أن أكون ليدي، لن أكونها أبداً. أنا أتعثّر بخطواتي إن مشيت حافيةً، فكيف بالكعب العالي؟ وبالطبع، لا يجوز أن نكون ليدي بدون كعبٍ عالٍ، أو هكذا فهمت. نرتدي فستاناً أحمر، ندخل صالة كبرى، فتتوقّف الموسيقى، ويصمت الجميع، وتشخصُ العيون. هكذا نصير محبوبات ومرغوبات.

عشتُ ما يكفي من أحلام اليقظة، عن لقائي مصادفة بالحبيب المنتظر، فتى الأحلام العجيب، كابتن ماجد حياتي. مثلاً، سأرتطم به عند خروجي من باب الجامعة، فتقع الدفاتر، وتتطاير الأقلام، فلا نلمّها، بل يتوقّف الزمن، ونحدّق بعيون بعضنا البعض، ونبتسم، ثمّ تتسارع الأحداث على وقع أغاني راغب علامة، وبعدها يأتي ليخطبني من أهلي (الكاتبة ضحكت كثيراً عند كتابتها لهذه الجملة).

بعيداً عن أرض الأحلام، وفي معترك الحياة الواقعية، في خضمّ مللها وبطئها وسرعتها وفوضاها، وجدتُ نفسي أختار دوماً الأضمن لتفادي كسرة القلب: رجالٌ لا يرونني من الأساس. تلك كانت طريقتي للهرب من كابوسنا الأسوأ: الرفض. أن نعيش الحبّ في الأحلام فقط، أرحم من الرفض على أرض الواقع. أو هكذا فهمت.

أعتقد أنّ خياراتنا الدفاعية غير الواعية تسبب لنا ما يكفي من الحزن والألم، في طريقنا للبحث عن السعادة والحبّ.

ننفي أنفسنا بعيداً عن "سوق العلاقات"، نسيء الظنّ بقدرتنا على تلقّي العاطفة ومنحها وقبولها. ننجذب إلى شخصيات توكّد أفكارنا المؤكدة مسبقاً عن صعوبة التواصل، وسوء الفهم، وصغر النفس البشرية.

نرسّخ من حيث لا ندري، لشدّة الخوف ربما، معادلات ظالمة. نشبّع عقولنا وقلوبنا بسموم المنظومة، لأننا تعلّمنا أن خوض المعارك، مهما كانت صغيرة، مكلف كثيراً، على أجسادنا وأرواحنا، كنساء.

قبل مدّة التقيت بـ"كراش" عتيق جداً، واحد من أوائل "كراشاتي" المدمّرة. كنت أشعر بالدوار كلّما مرّ بجانبي. أما هو، فأعتقد أنه لم يشعر أبداً بأي شيء نحوي، لأنه بالكاد كان يعرفني. لمحته مع زوجته. يبدوان لطيفين معاً، ويبدوان سعيدين. حين رأيته، كنت أرتدي تنورتي المفضلة، وجاكيتي الجلديّة السوداء، وأشعر بأنني جميلة جداً، وأنيقة جداً، وسنغل جداً، وغير مكترثة بتاتاً. 

أدركتُ في تلك اللحظة، ما استعصى عليّ فهمه قبل عشرين عاماً: أنني لا أرغب أن أكون مكانها. سأجد حتماً من يحبّني كبطّة، ولا داعي لأن أمثّل دور عصفورة.



 

مدونتنا