متى أنضج حقاً؟

نتحّدث نحن الفتيات اللواتي ولدن في عائلة ملخبطة عن النضج المبكر، أو أنّنا نتصرف بطريقة أكبر من عمرنا، أو أنّنا لا نريد ان نعيش الحياة التقليدية أو أن نعيد علاقة عائلتنا الفاشلة. نتحدّث عن قوّتنا أمام الصدمات الجديدة وعن كل ما نحمله كرداّت فعل وآليات مواجهة. أشعر اليوم أنّ هذا ليس نضج مبكرًا، إنما هو شوق للطفولة أو ربما وسيلة لتعويض تلك الأيام. فربما استثمرت كلّ ما ضاع بوضع مخططات تخرج عن تلك المخططات التقليدية للنساء وهذا لأنّني ربطت الطفولة بفكرة لم أعشها. 

 

نضع نضج النساء تحت خانة الزواج غالباً، وهذا يعود لامتلاكنا ساعة بيولوجية غريبة. فهذه الساعة تنتهي مع انتهاء قدرتنا على الانجاب، وطبعاً، طفل واحد ليس كافيًا، فهذا الطفل بحاجة إلى شقيق أو شقيقة. إن أردنا أن نرسم جدولًا زمنيًّا للمرأة، يمكننا أن نلخصه كالتالي. نتحدث هنا عن المرأة العادية، لا تلك التي تربى في مجتمع يحرمها التعليم، ويجبرها على الزواج، ولا عن المرأة التي تأتي من طبقة تراها استثمارًا ماديًّا عليها أن تهرب من بيت والدها الفقير إلى بيت زوجها الأقل فقراً، وهذا لتخفف العبء عن العائلة التي بالكاد يمكنها أن تدفع سعر ربطة الخبز. نتحدث عن المرأة التي لا تملك أبًا شريرًا وعائلة تراها كيانًا مستقلًّا وليس استثمارًا ماديًّا أو عبئًا إضافيًّا. الأنسب لهذه المرأة هو التخرج من الجامعة بعمر الـ21 ربما، ثمّ العمل قليلاً أو السعي لاكمال دراسات أعلى، تدق ساعة الخطر حينما تصبح 28، لماذا؟ هي قريبة من الـ30، وفي الـ30 يصبح حظ المرأة أقل لأنّ الرجل سيفضل فتاة أصغر منها، وهي فتاة متاحة بالطبع. بالإضافة إلى ما يفضله الرجل، الحبّ على الـ30 يعني الزواج على 32 ثمّ الحمل على الـ34، وهل تريدين أن تكوني أكبر من ابنك بـ34 عاماً؟ متى ستنجبين له شقيقًا؟ متى ستتمكنين من إرضاء زوجك؟ وكل هذا التفكير الذي نستمع إليه في اجتماعات العائلة، حينما تقرر جدتك أن تعطيك مثالًا عن ابنة خالك التي "لحقت نفسها"، عكسك تماماً. 

 

في الآونة الأخيرة حصلت على تأشيرة سفر إلى أوروبا، وهذا ليس حلم بالنسبة لي، فأنا أكره المستعمرين وأملك وجهة نظر عن تلك البلاد، لكن سعدت لأنّني سأسافر بنفسي إلى بلدين بعيدين وسأخوض تجربة خاصة. فأنا منذ الصغر وضعت النضج تحت خانتين، وهما التعبير عن الذات وامتلاك الكثير من الأموال. ويشمل التعبير عن الذات بالنسبة إلي: السفر والتعرف إلى الكثير من الأشخاص، والحصول على الكثير من التاتو، وأن أتمكن من التعبير عن ذاتي كما يحلو لي وأن أذهب إلى الحفلات، وأجرب أمورًا غريبة وممنوعة، وأقع بالحب طبعاً، وأشاهد كل الفرق الموسيقية التي أحبها. أنا لا أعتبر هذا نوعاً من الانفتاح أو ثورة على المجتمع والتقاليد، بل هو جزء من فكرة كونتها بالمراهقة حينما كنت مهتمة بستايل وطريقة تفكير معينة، وهو وعد لنفسي قطعته في الصغر حينما كان والدي ووالدتي يتشاجران. عدم اهتمامي بالأمور التقليدية كالزواج لا تأتي أيضاً من فكرة أنّني أريد أن أثور وأنّني مختلفة عن فتيات مدرستي، بل تأتي من خوفي من الارتباط وعدم انجذابي للرجال أصلاً، وأن أكون في مجتمع كويري، يعني الصعود عن التقاليد الأبوية التي اصلاً لا تتماشى مع علاقاتنا العاطفية، فأنا من المستحيل أن أدخل أفكارًا ذكورية وضعت هرم المجتمع التقليدي إلى مجتمع كويري لا يرى نفسه مع الغيريين

 

لا يعني النضج هو رفضي للزواج، أو رفضي للانجاب. فبعد سنتين من العلاج النفسي، والتي قطعت جلساته لأسباب خاصة، اكتشفت أنّني لم أكن طفلًا بكيان مستقل وحاجات يتم تلبيتها، بل كنت طفلة تلعب دور الوالد والوالدة، فعليّ أن أفكر بردات فعل والدي المتقلبة وأن أرضي أمّي الحزينة على مشاجراتها معه، وأن أكوّن انصهار غريب مع أشقائي. وهذا نوع من الشخصيات ليس جميل أو رائع، فهو نوع أيضاً رغم استقلاليته، يكوّن سمات سامّة منها عدم قدرته على القول "لأ"، عدم تمكنه من التعبير عن ما يحتاج، ومحاولة إرضاء الغير، وأحياناً الدخول في علاقات عاطفية مدمرة. 

 

هنا النضج بالنسبة إلي يأخذ شكل معيّن في كل مرحلة في حياتي بسبب كل هذا التلخبط والأدوار الكثيرة التي لعبتها سابقاً، اليوم ربما هو أن أسافر وحدي إلى أوروبا. لا أدري، سابقاً كان أن أشتري سيارة، واشتريتها، واليوم أذهب إلى المصلّح بنفسي. في كل فترة أكتشف مرحلة نضج جديدة، وفي الغالب ليست تقليدية..  ما زلت أحب الذهاب للرقص في حفلة معينة في الويكند، وأحياناً لا أتصرف بطريقة professional في العمل، حتى أنّني لا أملك طموح رأسمالية. وربما عائلتي تراني الخاروف الأسود الذي لديه مشكلة مع شرب الكحول، ولا يدخل في علاقة عاطفية، ويحب الحفلات، وهذا لأنّ أمّي لا تعلم حتى اليوم لماذا أصرف أموالي على رحلة إلى أوروبا، ولا يعلم والدي لماذا رفضت الهجرة إلى لندن، فأولادي بحاجة إلى جنسبة بريطانية، وأنا ما زلت في الـ26 من عمري، يمكنني أن أضيع لـ5 سنوات في لندن وآتي لأكمل المشوار مع رجل وأطفال. فالمرأة مع جنسية مرغوبة أكثر. مع كل هذا، أنا تمكنت من أن أنجز المهمة الأولى وهو التعبير عن الذات، وبقي لي، المهمة الثانية وهو أن أمتلك الكثير من الأموال. أنا لا أملك الكثير، لكن استقلالي المادي بدأ حينما كنت في الـ17 من عمري، وحتى اليوم أصرف على نفسي بكل راحة، ولم أفلس يوماً. وهذا جزء من كيف أرضي المجتمع. فالفتاة الناضجة، هي الفتاة التي تملك المال، والتي تعطي بعضاً من أموالها لعائلتها. وهنا بهذا الشق، أنا رضيت المجتمع بنضجي. فكيف سيوبخ والدي فتاة مستقلة؟ 

 

إنّها خطط وأفكار كثير للوصول للنضج. اليوم أرى النضج في شراء آلة موسيقية وأسطوانات أحبّها والجلوس في غرفتي لأستمع إليها بعد العمل. وأرى النضج في الذهاب إلى حفلة لفرقتي المفضلة. أنا أكبر بالعمر، لا يمكنني أن أموت من دون أن أرى فرقي الموسيقية المفضلة. ولهذا أنا هنا، أعيش فكرة غريبة من النضج لا يمكنني أن أجد الإجابة عنها.

مدونتنا