ما ورثته عن أمي وجدتي: النسوية والفساتين
في خلفية الخزانة العتيقة يتدلّى فستان بديع. لونه أخضر، مكشوف الكتفين، تنورته منفوشة تصل إلى الركبة. إنه ليس فستان سهرة كما مرّ ببالكن. بل فستان صباحي كانت ترتديه جدّتي في الخروجات العادية. "مشوار إلى جروبي* آكل مارون غلاسيه مثلًا"، تجيب تيتة عن سؤالي متذمّرة. فأنا من الجيل التافه الذي لا يعرف معنى "خروجة عادية".
كان فستان جدتي الأخضر ساحرًا، وعلى مقاسي، ولكن ليس بإمكاني ارتداؤه. ولم يكن السبب أنه بات وليمة للعثّ فحسب، بل لرقيه الفائق، وفتحة صدره الواسعة. أفكّر أن آخر فتاة كان يمكنها اللف بفستان مماثل، في "خروجة عادية" إلى مقهى، هي شادية. تُهمل تيتة ذلك التفصيل حين تتحدّث عن حياتها كامرأة في خمسينيات القرن الماضي.
تختلف نظرة النساء إلى حياتهن، ويتغيّر مفهوم النسوية بالنسبة لهنّ، وفق ما يختبرنه عبر الأجيال. بحسب اعتقادها، عاشت تيتة ملكة، وحازت على كلّ حقوقها. تحكي عن والدها بفخر. كان رجلًا منفتحًا يؤمن بحقوق النساء. قطعًا، لم ينقصها شيء، لأن والدها سألها عن رأيها بمن تقدّموا لخطبتها، وتقبّل موافقتها أو رفضها بأريحية.
ومع ذلك، رفض والد تيتة أن تكمل تعليمها. حازت شهادة الإعدادي (المتوسّط)، ثم التحقت بمعهد للحياكة. وتزوّجت "باختيارها"، كما تؤكّد، في عمر السادسة عشرة.
النسوية بالنسبة لتيتة، هي أن تتمكن من اختيار رجل تحبه أو تعجب به، على أقل تقدير، ليكون زوجًا. تصير حياتها بدءًا من هذه النقطة يسيرة. "يمكنك أخذ كل ما تريدين من الرجل في حياتك إن كنتما متحابين"، تقول تيتة.
لا ضير بالنسبة لها من بعض التلاعب. المرأة الذكية لا تحتاج الكثير لتحقّق مرادها، وتعيش وفق ما ترغب. قد تستهلك طاقةً مضاعفةً، ووقتًا سرمديًا، لكنها في النهاية ستصل لبعض حقوقها، وتجعل جدو، يلبي أحلامها، ويظن، بسذاجة، أنه المسيطر على الأمور. النسوية في عقل تيتة، حيّزٌ ضئيل من الحرية، يتيح لها مواصلة الحياة بقوتها الناعمة من الدهاء.
تدرك تيتة، أن العيش بوجهين يكلّف طاقة، ويلغي الصدق، ويمحو الثقة. ويقينًا أرادت في حياتها أكثر مما أتيح لها، لكنها كُبلت باكرًا. لا ألوم تيتة والنساء اللواتي يتبعن هذا الأسلوب، طورنه للنجاة من العنف والأذى والموت.
أن ترتدي ما تحب بلا تفكير وحسابات، لا يشير إلى تحرّر واستقلال تام، مثلما كنت أظن. تغيب الأريحية والتلقائية عن بقية أقوال تيتة وأفعالها، وتموت أمنياتها ببطء. هل فكرت تيتة أن حصولها على ذاك الامتياز مُقابلٌ مُرضٍ لحرمانها من امتيازات أخرى؟ هل فطنت للمواءمة بين رغباتها وقبول مجتمعها لها؟ أختنق في عقلي، إن فكرت في الفستان الأخضر الآن.
تكمل ماما من حيث انتهت تيتة، وتزيد سطرًا من الحرية على حياة فتيات العائلة عبر الأجيال. الزواج ممن تريد، كان أمرًا مفروغًا منه، اكتسبته بالوراثة من تيتة. ما استحدثته هو أنها أتمت تعليمها، وعاشت وحدها في مدينة أخرى لتلك الغاية، وتأخرت في الزواج مثلما رغبت. وتلك الحقوق، وَرَّثتها لي بلا تعب.
يؤدي التعليم، والوقت الناتج عن الخلوة بالنفس دون زواجٍ مبكر، إلى تطوير الذات. "أوه مون ديو (يا إلهي) لا طبعًا تيتة مسكينة، تناقشي مع جوزك بلا تحوير أو خداع، بدون استثارة شفقة، المهم تكونوا بتحبوا بعض"، تقول ماما.
تعرف أمي، أن عليها الوصول إلى تسوية مع السلطة الذكورية في حياتها والمجتمع، لكن ليس بالتحايل مثل تيتة، بل بالتطنيش والنقاش.
كل ذلك، لا يزال مشروطًا بأن تتمّي تعليمك لتكوني ندًا، وبأن تتزوجي ممن تحبين، كي يتقَبل نديتك. تغفل ماما أيضًا، إمكانية ارتداء الفستان الأخضر، بل واستبدال التنورة المنفوشة غير العملية، بميني جوب لتواكب موضة الثمانينيات.
تلك نقطة في بحر امتلاكنا كنساء لأجسادنا، وهو أمر تستنكر ماما التفكير فيه. ماذا تريدين أكثر من التعليم؟ حرية اختيار لقرة عين صالح؟ تظن ماما أنها نسوية، لأنها استخدمت حقها البسيط في التعليم، والنقاش، وقليل من الندية. فقط. حق النساء بامتلاك أجسادهنّ، ومخالفة قرارات العائلة، أو الخروج عن نمطها وبروتوكولاتها في الحياة، كارثة ليست من الحقوق أو النسوية في شيء، بنظرها. لأكون منطقية، لا يمكن لماما التطلّع لأكثر من ذلك، نعلم التبعات الحزينة لتلك الأفكار على حياة النساء.
انتقل إليّ حظُّ النسوة من قبلي. لم يخطر ببالي أبدًا أنني لن أكمل تعليمي العالي، أو أنني لن أسافر، ولن أعيش وحدي للدراسة، أو العمل، أو الترفيه، أو الاستقرار. لكن كثيرًا ما أعود إلى نقطة الصفر في بديهياتٍ أخرى: الحق بامتلاكنا قرارتنا بلا تسويات، وبلا توريث. ماذا عن فتاة أخرى لا "حظ" لها؟ لماذا يعدّ الحظ السعيد بالنشأة في عائلة منفتحة "قليلًا"، هو النقطة في الفاصلة في قدرة امرأة على عيش حياتها كما تريد؟
أعلم أنه لا يمكنني قياس ما عاشته نساء عائلة ماما، على بقية النساء من حولي، في الصعيد مثلًا، أو ضمن أية أقليات دينية أو إثنية، أو فئات هشة أخرى في المجتمع.
وكذلك الأمر بالنسبة لنساء عائلة بابا، اللواتي كن أكثر ترفًا وأرستقراطية، سواء قبل أو بعد تقلص ثرواتهن وألقابهن إثر زوال النظام الإقطاعي. لقد عشن في عالم أكثر راحة، ونلن امتيازات اجتماعية وطبقية ومادية، وإن كن مقيدات في النهاية بالمجتمع الأبوي وذكور العائلة.
فضل جداتنا وأمهاتنا علينا عظيم. كُنَّ جسرًا لنا، نحن جيل النساء من بعدهن. أورَثْنَنا حقوقًا، راحة، استحقاقًا، أمورًا بديهية. رواية قصصهن لنا، بشقيها الشجاع والمبهر، الحزين والقاسي، ساعدنَنَا على بناء قاعدة وإن كانت مُتخلخِلة. قاعدة تساعدنا في استيعاب حالنا الكارثي، ما نريده ويمكن تحقيقه، وما نرغب به لكنه محال؟
أنا، ماما، تيتة، جارتنا، وأمها ،وجدتها، بائعة الجرجير في السوق ونساء عائلتها. سلالات من النساء العاديات. قلّة منهنّ تعدّ نفسها مناضلة نسوية. لسن أكاديميات، أو شخصيات عامة، ولم يقدن حروبًا لنيل حقوق النساء. لكن قصص "غزواتهن اليومية" الصغيرة، ومعاركهنّ، انتصارهن في بعضها، عبارة عن إرثٍ دائم من الخذلان، والفوز، والمحاولة، والتمكّن.
كل ابنة، هي امتداد لنضال أمها. لكن ماذا عمّن لا تريد الأمومة؟ ماذا أورث فتيات العائلة الممتدّة من بعدي؟ ربما أورثهنّ الحق في كتابة هذا النص؟ أو أورثهنّ الكثير من الرغي والحكايات عن محاولاتي ومحاولات جدّاتنا من قبلنا؟
مهما كان ما سأتركه لنساء العائلة من بعدي، أحبّ ألا يورثِوا النسوة من بعدهن ملابسًا مهترئة. أريد لملابسهن أن تهترئ من كثرة ارتدائها، وليس من العثّ في الخزانة. لا يهم لون تلك الملابس، ولا طولها ولا قصرها ولا طرازها… المهم أن تكون تماماً كما يُحْبِبْنها.
* مقهى جروبي مقهى عريق وقديم بميدان طلعت حرب بالقاهرة. أسسه جاكومو جروبي (بالإيطالية Giacomo Groppi ـ 1863 - 1947)، سويسري جاء إلى مصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر.