لا أريد الكتابة... أريد الذهاب إلى سوريا

في بيروت أستيقظ مع بداية الزلزال، أحاول فهم ما يحدث، أشعر للحظة أننّي أحلم، أنهض وأحاول الوقوف فتميل الأرض من تحتي، وأشاهد الأشياء تتأرجح حولي وأشعر بشكل واضح بالغرفة تتحرك بي، تحولت الغرفة في لحظة إلى علبة كرتون هشّة، أسمع صراخاً في الخارج، أفتح الباب، جارتي المسنة تقف أمام الباب مذعورة، تريد مثلي فهم ما يحدث، ندرك أخيراً أنه زلزال، لكن لماذا لم يتوقف؟ نهرب نحو الشارع، أغلق الباب وأنسى المفتاح في الداخل.

وحيدة ببيجامة النوم أجلس أمام باب شقتي في بيروت، بعد انتهاء الزلزال، لا أفكار في رأسي، خائفة، ولا طريقة لفتح الباب حتى يأتي الصباح، ولا مال معي والناس من حولي مذعورون، وأنا جديدة في البناية، ولازلنا نشعر بارتدادات الهزة، حسناً فعلت كل ما لا يجب فعله، استخدمت المصعد والدرج، وهذا جهل مني في كيفية التصرف وقت الزلازل. لم أعلم بما يحدث في سوريا حتى فتحت هاتفي وبدأت بقراءة الأخبار، وحيدة جالسة على الأرض، بدأت أفهم الكارثة، لتصيبني نوبة هلع، بدأ  قلبي يدق بسرع، وشعرتُ بضغط دمي يهبط وبالعالم حولي يميل، حاولت التنفس وتهدئة نفسي: "سيمضي... سيمضي".

أطرق الباب على جارتي البيروتية مجدداً فلا ترد، أخاف أكثر، واستمر في محاولة تهدئة نفسي، دون فائدة، يظهر شابٌ فجأة، جاء للإطمئنان على محل النظارات الطبية الخاص به جانب شقتي، ينظر باستغراب وبخوف نحوي، يسألني إن كنت أحتاج شيء، في تلك اللحظة لم أكن بحاجة سوى لعبارة: "أنتي منيحة؟"، كان بودي الوقوف أمامه والبكاء لكني لازلت عاجزة عن التفكير حتى في البكاء، أخبره أني نسيت المفتاح، يعرض المساعدة في إيصالي إلى أي مكان، أتردد ثم أقول له إن كان ذلك ممكن، أن أذهب لعند صديقي لأني لا أملك المال ويبدو أن مسألة الباب لن تحلّ حتى الصباح، وبينما ننهض للرحيل، تظهر جارتي، تدعوني للبقاء عندها حتى الصباح، أشكر الشاب مجدداً، ثم يناديني جانباً ويصرّ على منحي بعض المال خوفاً من حدوث مكروه.

أشعر بالقليل من الطمأنينة وأنا أشرب الزهورات برفقة المرأة، نتبادل أطراف الحديث حتى طلوع الشمس ونُهدّىء بعضنا ونطمأن على أحبائنا في ذات الوقت، ورغم أني لم أكن أحتاج المال ولم يكن كأس الزهورات لينقذني من القلق لكنني شعرت بالإمتنان، برغبة في عناق السيدة والشاب اللبنانيين، اللذين ظهرا لإنقاذي من خوفي ووحدتي التي لم تكن في مكانها تلك الليلة. 

مضى اليوم الأول في العمل، حرصت على متابعة كل خبر، أصابني هوس بمتابعة كل ما ينشر، لم أتوقف كل ساعات النهار عن متابعة الأخبار، ورغم أني عملت على نقل الكارثة في العمل إلا أن شيئاً كان ينقصني، وبدأت بمشاركة كل أرقام الجهات التي قد تساعد، حاولت تهدئة نفسي لكن دون جدوى، أريد فعل شيء، ربما في لحظة جلوسي عاجزة أمام باب منزلي فهمت معنى الشعور بالعجز والخوف والوحدة، وازداد هوسي بالرغبة في فعل أي شيء، ورغم كل تعبي بقيت صامدة، لم أنهار، ولم تنزل دمعة مني، لكن كل روحي وعقلي كانا مازالا يهتزان بألم.

وللمرة الأولى شعرت أني لا أريد الكتابة، أريد العودة إلى سوريا، أريد تقديم المساعدة، وأن أفعل شيئاً ملموساً وحقيقياً، بدأ العجز يأكل روحي، والكارثة تفقدني أعصابي، وأخبار الأصدقاء العالقين في الخوف والبرد منتظرين خبراً عن عائلاتهم المطمورة في الأسمنت تجعلني أحتاج نبش أي شيء، أريد النبش مع السوريين، فماذا تفعل الكتابة؟ أريد شيئاً أقوى، ملموساً وحقيقاً، كلحظة نجاة عائلة أو طفل، كلحظة لا يحدث فيها زلزال ولا ننتظر الأخبار عن الأصدقاء، ونحاول أن نبقى أقوياء. 

في الليل عدت إلى سريري أصابتني نوبة قلق، تذكرت مشاعر الليلة الماضية واجتمعت مع صور من غرقوا تحت الأنقاض وصرخات الإستغاثة، وبقيت ساهرة حتى الصباح، أفكر بالعتمة وبالأجساد وبأصوات من يأنّون، وبالبرد يأكل الأجساد في العراء. ولا يفارقني سؤال لماذا يحصل هذا مع السوريين؟ وكيف يمكن أن نتخطى هذه الكارثة؟ كيف يمكن أن نتمسك بالأمل مجدداً ونحن نعلم أن حتى الأرض هي ضدنا! الأسئلة التي لا أجوبة لها هي الأصعب، في مواجهة الكوارث، لماذا نحن؟ ولماذا حصل ذلك؟ كيف سنتخطاه؟ ولماذا تأتي الكوارث على من لم تتوقف الكوارث عن ملاحقتهم! أسئلة والمزيد من الأسئلة والناس تموت.

توجهنا إلى الله كثيراً وإلى العالم وإلى أنفسنا ولم نجد حلاً، ويجب أن نساعد العالقين، حتى فرق الأنقاذ يعاني أعضاؤها من ذات الكارثة وأحباؤهم عالقون أيضاً، إننا ببساطة ضحايا يساعدون ضحايا، مكسورون يساعدون مكسورين ويسموننا في النهاية ناجين، ياللسخرية؟ 

لم ننجو والجميع يعلم ذلك، لم ننجو منذ 12 عامًا فقدنا منازلنا أكثر من مرة، ولجأنا أكثر من مرة، وحلمنا بحياة تشبه الحياة ألف مرة ومرة، والآن نتنفس الإسمنت ونتمنى لو تتحرك أجسادنا تحت الركام، بانتظار ذلك الضوء القادم من الأعلى ليصرخ: "في حدا تحت... عايش ... عايش".

 

مدونتنا