"لأني أريد هذا"... الدفاع الدائم للسوريات عن خياراتهن

تخبرني والدتي، أنها قررت طلاء شرفة منزلنا في القرية باللون الأزرق، وبينما تحدثني بحماس عن اختيار هذا اللون، تمرر عبارة: "لكن البعض قال لي: من يدهن شرفته باللون الأزرق!". في قرية صغيرة في الجنوب السوري، عدم قبول خياراتك يبدأ من التحكم في شكل منزلك، ألوانه وأثاثه، يكاد كل شيء يبدو شديد التشابه، وكلّ خلل بهذا النمط المعترف عليه يبدو ناشزاً وغريباً.

أمي كامرأة لا تعرف الكثير عن العالم الخارجي والنسوية إلّا أنها مستقلة وذكية، تجيب بأنها اختارت الأزرق لأنه لون "فرايحي" أي مبهج، يشعرها بالطمأنينة، ولأن كلّ المنازل تدهن جدرانها باللون الأبيض والبيج، فلماذا يجب الاستمرار بهذا الروتين الممل للألوان ذاتها؟ ثم تختتم قائمة حججها، بأن اللون الأزرق الفاتح هو لون ثوب العذراء مريم وهو شيء شديد الأهمية لها.

أفكر بحجج أمي التي دافعت بها عن اختيار اللون الأزرق، فأدرك أنها تنتمي إلى ثلاث مستويات، الأول هو نفسي، فهي تريد ما يشعرها بالطمأنينة، والثاني يتعلق بكسر، فتلوين شرفة في الطابق الثاني بالأزرق هو حتماً خروجٌ عن المألوف، أما الحجة الثالثة، وهي الدينية فاعتقد أنها جدار حماية صنعته والدتي في وجه المنتقدين الذين لن يتجرأواعلى التعدي على المقدسات، وهو أمر شديد الذكاء ويحسب لها. 

أفكّر، لكن هل يتوجب علينا، نحن النساء، الدفاع في كل مرة عن خياراتنا؟ والبحث عن حججٍ لأبسط رغباتنا، الأمر لا يتعلق بلون شرفة وحسب، إنها مجرد قصة صغيرة عمّا ترغب به النساء في سوريا وكيف يمكن أن يُقابل خيارٌ صغير بموجة من الاستهجان، وهذا ينطبق على كلّ خيارات النساء، خيارات صغيرة تتعلق بشكل منزل، طريقة اللباس، طبقة الصوت والضحكة، وصولاً إلى الخيارات الكبيرة والمفصلية، ويمكن أن تكون الخيارات المفصلية حتى في طريقة اللباس، إذ أن الأمر شديد النسبية في سوريا، فقبول شكل من اللباس في منطقة ما هو أمر محظور بشكل كامل في منطقة أخرى، لكن يصدف أن تكون المنطقتين متجاورتين تماماً.

التنوع الديني والطائفي والمناطقي، صنع اختلافات يمكن أن تكون مرعبة بين مكان وآخر قد لا يبعد أكثر من كيلو متر واحد، أذكر أني دخلت مرة منطقة محافظة في دمشق، بدوت كما يقال في سوريا "كالعين المقلوعة"، أي شديدة الاختلاف عمّا حولي، كنقطة بيضاء في صفحة سوداء، حتى شعرت للحظة أني عارية تماماً، فقط لأن لباسي لا يشبه المكان وهذا ينطبق على السيدات القادمات من أماكن متدينة وشديدة التحفظ إلى مناطق أكثر انفتاحاً، وهكذا تغدو خيارات النساء أمام تحديات لا تنتهي، تُجبر فيها النساء على تغيير أنماط حياتهن تبعاً للمنطقة التي يتواجدن فيها، على سبيل المثال يمكن للمرأة في أحياء باب توما والقصاع ارتداء ثياب مكشوفة لكن لا يستطعن ذلك في مناطق أخرى كحي الميدان أو الزاهرة، ليس لأن أحداً ما سيقول لهن أخرجن من هنا، ولا يوجد قوانين دينية صريحة بهذا الشأن، لكن النظرات وكلمات التحرش وحدها كفيلة بأن تقول: "مكانكن ليس هنا".

بالانتقال إلى الخيارات الأكبر كالانتقال للعيش وحيدة أو السفر أو الامتناع عن الزواج، تصبح التحديات أكبر، وتواجه الفتيات خسارات حقيقية، خيار استقلال الفتاة وعيشها وحيداً لا يحدث إلا تحت شروط محددة وقد تكون صارمة في بعض الأحيان، العيش بعيداً عن العائلة يحدث في الدرجة الأولى بسبب الدراسة في مدينة أخرى، وبعد انتهاء الدراسة من المتوقع أن تعود الفتاة بشكل تلقائي إلى منزل العائلة، أما الحالة الثانية فهي العمل في مكان بعيد أو مدينة أخرى، تُضطر العائلة مرغمة على قبول ابتعاد ابنتهم عنهم، بعض العائلات تفضّل سكن ابنتهن في مساكن مخصصة للفتيات، ويمكن القول أن ابتعاد الفتاة عن أهلها بهدف العمل هو أول طريق الاستقلالية والتحرر ورؤية الحياة بطريقة أخرى.

سألني مرّة أحدهم لماذا تريدين العيش وحيدة في دمشق بعيداً عن أهلك؟ فأجبته: "لأني أريد ذلك". بالنسبة لي كان هذا الجواب هو الحقيقة المطلقة والصادقة التي تتضمن حقّاً طبيعياً لي، لا يتعلق فقط بالسكن وحيدة إنما باتخاذ هذا القرار لكن بالنسبة له هذا لم يكن جواباً بل سخرية منه! إذ لا تمتلك جميع الفتيات رفاهية الاختيار، ليس بسبب معارضة الأهل وحسب، بل لأن العائق الاقتصادي يشكل التحدي الأكبر في ظل الانهيار الاقتصادي في سوريا من جهة وارتفاع مستوى البطالة من جهة أخرى، كان عليَّ مواجهة تحديات مالية كبيرة في فترة ما من حياتي حتى أحافظ على استقلاليتي، الإيمان بالحصول على استقلاليتي وحريتي هو ما دفعني للبحث عن الاستقلال الاقتصادي وتطويره، وكأن الأمر تحوّل لتحدٍ لنفسي، على الرغم من أن ظروف العمل والفرص في سوريا كانت معقدة وصعبة للغاية. غالباً ما يقول المنظرون للفتيات اللواتي سكنَّ بعيداً عن عائلتهن، دون وجود سبب واضح كالعمل أو الدراسة: "ماذا تفعلين في دمشق، بعيداً عن أهلك؟ عودي إليهم"، بعيداً عن أن هذه الجملة هي تدخل سافر في خيار شخصي، فهي كذلك تحمل وجهين لا يجب أن نغفل عنهما، الأول مرتبط بسؤال ماذا تفعلين في دمشق؟ وهو يرمي في باطنه إلى أن عدم وجود سبب واضح للبقاء في العاصمة كالعمل، هذا يعني، بحسب المنظرين، أن سلوك الفتاة "الأخلاقي" قد يشكُّ فيه، أما جزء العودة إلى الأهل فهو يعكس المحاولة الدائمة لسحب الفتيات مجدداً إلى دائرة الرقيب الاجتماعي الأولى وهي العائلة والتي من خلالها سيتمكن باقي الأفراد على اختلاف قربهم من العائلة، التدخل في حياة الفتاة!

بالوصول إلى المرحلة الأكثر أهمية في حياة الفتاة، في معظم المجتمعات السورية، فإن أُتمت المرأة الواحدة والثلاثون عاماً من دون زواج هو أمر يثير حفيظة دوائر الأقارب والمعارف والجيران.وحتى الغرباء الذين أقابلهم صدفة، فهم بحسب رأيهم، لا سبب لتأخري في الزواج، فأنا فتاة جميلة ومتعلمة، وهذا يكفي لأن أحصل على أفضل عريس على الإطلاق! إذ أن التفكير المجتمعي الذكوري لازال يؤمن أن الفتاة هي من يتوجب أن تمتلك صفات جيدة لتحصل على فرص أفضل، بالنسبة لأغلب المجتمعات في سوريا، على اختلافها المناطقي والديني، لم يكن الزواج يوماً هو خيارٌ تتخذه الفتاة إنما هو مرحلة طبيعية يجب أن تمر بها كل الفتيات كما لو أننا نتحدث عن أمرٍ حتمي.

اتخاذي قرارَ التأخّر في الزواج كان مرتبطاً بشكل أساسي بوجود أمور جوهرية أريد التركيز عليها والتي تتعلق بالكتابة والشعر بالدرجة الأولى، إلا أن هذا الأمر حتى غير مقنع لهم، "ألا أستطيع الزواج والعمل في وقت واحد!" ولو قلت لم أجد الرجل المناسب سيكون الرد أني متطلبة ولا شيء يعجبني، وهكذا لن تنتهي حججهم غير المقنعة، 

لذلك اكتفي بقول: "لأني أريد هذا"، نعم لا أريد الزواج، ما العيب وما أقصى شيء سيء يمكن أن يحدث؟ هل ستنتهي حياتي؟ للآن مازالت حياتي تسير على ما يرام، ولم يخرج لي غول الخسارة، وقد أتزوج يوماً وقد لا أفعل، لكن بالتأكيد لن اتخذ هذا القرار تحت أي نوع من الضغط أو الخوف من الوحدة أو المجتمع، سأتخذه "لأني أريد هذا".

 

مدونتنا