كيف نشفى من جرح الأم؟

كيف نشفى من جرح الأم؟ سؤال تطرحه النسويات كثيراً، ولا أعرف حتى الآن إجابته، لكنني أعرف كيف أصفه، أو على الأقل سأحاول.

أنا المحمّلة بذنب الأم، لا بجرحها فقط، أسأل نفسي دوماً عن معنى الأمومة، وعن معنى أن أكون ابنتها من دون أن أجرّد نفسي من مشاعري تجاهها. أسأل عمّا يعني أن أحاول تفكيك هذه المشاعر وأواجهها.

النسوية بالنسبة لي بدأت من السؤال: من تلك اللحظة التي خرجتُ فيها من الصندوق المعلَّب للإجابات الجاهزة والواضحة. كانت النسوية بداية الرفض، ثم بداية حقي في التساؤل.

لذلك، سأواصل السؤال هنا، وأُذكّر بحقّنا في هذا التساؤل الدائم. فكيف يمكن أن أحبّ أمي خارج العنف والذنب ومفهوم الأمومة نفسه؟



 

البيض بطعم الذنب


 

ما زلتُ أبكي كلّما احتضنت أمي، وكلما بادرت هي إلى ذلك. أمس بكيت. انهمرت دموعي على خدّيَّ اللذين فقدا حجمهما مؤخراً، حين اقتربت مني وهي تسمع نوحي على وجعي، وساعدتني على خلع ملابسي لأرتدي البيجاما وأرتاح. فعلٌ لا أذكر أنني اختبرته في طفولتي. ربما حدث مرة أو مرتين، وربما لم يحدث أبداً. لا أعرف.

لكنني أذكر طعم البيض المسلوق على لساني، وحرارة قبلة الصباح التي كانت تلسع خدّي وقلبي. سنة كاملة كانت أمي تطعمني فيها بيضة مسلوقة كل صباح قبل المدرسة، ثم تقبّلني. عشنا سنة واحدة من الراحة، أو شبه الراحة. كنت آكل البيض يومياً وأتلقى قبلة صباحية. كنت أكره البيض، لكنني آكله كي تقبّلني. لأنني أحبّها. وهذه الحقيقة ما زلت أحاول فهمها حتى اليوم، بعيداً عن الذنب الذي يتسلّل بيننا، وفي قلب تعقيدات هذا الحب.

في تلك السنة كنت في السابعة من عمري، وكنا نعيش في حيّ شعبي جداً. كانت أمي تعمل يومياً لتؤمّن لي بيضة الصباح، التي كانت تصرّ على أنها "مصدر أساسي للكالسيوم". ومع ذلك، طوال تلك السنة، لم أرها تأكل بيضة واحدة.

ربما كانت تلك السنة الأفضل بيننا، وربما أيضاً السنة التي سبقتها، لأن العلاقة كانت آنذاك أقل تعقيداً؛ لم أكن أفهم منها إلا بيضة مسلوقة وقبلة صباحية. أقول أحياناً إن هذا الشكل البسيط من علاقتنا كان أبسط. أمّا اليوم، فالعلاقة أعقد بكثير، لكننا أقرب. ولا أنكر أنني أحبّ هذا القرب وأحبّها.

هذا النص محاولة للتصالح مع هذا الحب الغريب، الحب الذي ينخر معدتي وقلبي داخل واقع مُنهِك وثقيل.

لكن الذنب ينهكني. أعرف أنه ليس ذنبي، لكنني أشعر به في جلدي. هي الضحية في الحكاية الطويلة، ومع ذلك أنبتت داخلي جرحاً عميقاً بلا قصد. صار العناق يوقظه، فينزف، فأبكي. أبكي ذنبي، ووجودها، وغيابها، وحبّي لها. أبكيها وأبكي الجرح الذي خلّفته في داخلي.


 

كلما اشتدّ هذا الشعور أعود لأكتب، لأنني تعبت من البكاء. البكاء لا يخفّف شيئاً، ولا يخرج الوجع من جسدي، بل يزيده أحياناً. أبكي حتى أتقيأ، أو أنام، ثم أستيقظ في اليوم التالي بالشعور نفسه في معدتي.


 

قالت أمي مرة إنني أتخلّى عنها، لكنني لا أفعل. كل ما أريده مساحة صغيرة لأغفو بسلام. هي تريدني أن أنام في حضنها يومياً، متناسية أن هذا الحضن كان ينبغي أن يكون لي يوم كنت طفلةً أضيع وسط مشاهد العنف التي يتركها صوت أبي في رأسي. كان يخيفني، يثبّت العنف داخلي. اليوم لم يعد يخيفني بقدر ما يقلقني. لكن الحديث عنه يفقد أمي أعصابها، فتلومني على وجوده، كما تفعل دائماً. وهذا ليس ذنبي.



 

رأيتُ ما رأيت

أُحاول فهم حبّي لها خارج الذنب وخارج سلسلة العنف، لكن الأمر صعب. يصعب أن أمحو من ذاكرتي ما رأيتها تتعرّض له، ويصعب أيضاً أن أفهم حبّي لها من دون أن يختلط بشعور ثقيل بالذنب تجاهها. وكلما حاولت، ازداد الالتباس.

ربما حياتها التراجيدية هي ما وضع هذا الذنب فوق الحب. عاشت في عائلة سيئة، تحت أب قاسٍ. وتزوّجت رجلاً حاولت الهرب عبره من بطش الأب، فإذا به أسوأ منه، وكان أباً أسوأ لي أيضاً. سلسلة طويلة من العنف تمتد على سنوات: تعذيب، وصراخ، ونواح، ومحاولات هرب. أتذكّرها كلها كما تتذكّرها هي، كما تتحدث عن محاولات القتل والاغتصاب الزوجي الذي تعرضت له، كما حكت لي عنها عندما كنت طفلة. كان ذلك أكبر من قدرة طفلة على الاستيعاب، لكنها لم تجد أحداً غيري لتقول له، كما الآن.

وأنا أيضاً رأيت ما رأيت: التعنيف، الصراخ، والإقفال عليها في بيت كبير. سُجنت داخله سنوات، ولم أملك كطفلة أي قدرة على فعل شيء. ومنذ ذلك الحين يلاحقني ذنب أعرف أنه ليس لي، لكنّه التصق بي لأنني كنت هناك… وماذا كان بإمكان طفلة أن تفعل؟

أذكر اليوم الذي اختارت فيه أن ترمي بنفسها من الطابق الأول، من الشرفة، هرباً من كلّ ذلك العذاب. وبعد رحيلها نلتُ نصيبي من ذلك العنف أيضاً. كان أبي مهووساً بها، بامتلاكها، وبفكرة السيطرة عليها، حتى لو استطاع سجنها داخل الأدراج لفعل. وحين لم يقدر عليها مباشرة، حاول ابتزازها من خلالي: ضربني لتسمع صوتي عبر الهاتف فتعود. أتذكّر أنه في البداية طلب مني أن أتظاهر بالبكاء لتسمعني، لعلّ ذلك يعيدها إلى سجنه. ما الذي كان يمكن لطفلة في الخامسة أن تفهمه؟ قررتُ ألا أبكي، رغبتُ بكل قلبي ألا تعود. فانهال عليّ ضرباً.

لا أذكر إن كانت قد عادت بعد ذلك أم لا. ما أذكره هو أنّ أبي، بعد أعوام، رفض تطليقها رغم أنها أمضت سنوات بعيدة عنه. لاحقها، راقبها، ومنعها من رؤيتي انتقاماً. ثم عادت في النهاية لتأخذني. ولو أنها لم تعد، ما كنت لألومها لحظة واحدة؛ كنت ممتنة لهروبها من ذلك الجحيم، حتى لو تركني داخله.

سلسلة عنف طويلة، متوارثة، لا تنتهي. اتصلت بي لاحقاً وخطّطنا معاً لـ"خَطفي". عشت معها سنة أو أكثر. كنت في السابعة، وهناك بدأت سنة البيض المسلوق.

حرارة قبلاتها على خدّي في اليوم الذي رأتني فيه و"خطفتني" لا تزال على جلدي. عرفتُ من يومها أنها تحبّني كما أحبّها. فعلت كلّ ما قدرت عليه لتضمن لي حياة أفضل، لكنه لم يكن كافياً، ولم تستطع الصمود وحدها طويلاً. بعد سنة أو أكثر، اتصلت بأحد أفراد عائلة أبي ليأخذني، لأنها لم تعد قادرة على تحمّل كل تلك النفقات، بينما كان أبي يرفض أن يزوّدها بقرش واحد طوال فترة إقامتي معها.



 

الذهاب والعودة إلى الأمومة


 

بقيتُ في بيت العائلة فترة طويلة، واقتصرت علاقتي بأمي على يومين في الأسبوع، وأحياناً في بعض العطل المدرسية. كانت خائفة دائماً، كما كانت طوال حياتها. تتصل بي كل يوم لتطمئن، وتحاول رؤيتي في المدرسة عندما يمنعها أبي مجدداً من رؤيتي. كان ذلك سيناريو عادياً جداً في عالمنا: أمّ تحاول النجاة أو بناء حياة بعيدة عن العنف والهيمنة، فتُعاقَب بالحرمان من أطفالها.


 

افتقدتُها كثيراً. بكيتُ في سريري مراراً، أبحث عن رائحتها. عدت للعيش معها في مراهقتي، إلى أن مرضت ولم تستطع تحمّل تكاليف علاجي. فاتصلت بأحد أفراد عائلتي، واتخذتُ قراري - وأنا في المستشفى - بالعودة إلى بيت العائلة. لم يكن بيتها مريحاً، ولم تكن حياتنا فيه مستقرة، وكنت أصغر من أن أحتمل ذلك القَدْر من التعب.


 

لم تتقبّل الأمر. ما زال صوت بكائها على شرفة المستشفى يلاحقني إلى الآن. كانت تبكي بأعلى صوتها وتقول إنني تخلّيت عنها. لم أفهم حبّها وقتها. واليوم، في منتصف العشرينات، أطرح على نفسي سؤال حبّي لها: حبّ مُثقَل بالذنب، متقلّب، محمّل بمرحلة طويلة من الالتباس، لعلاقة معقدة.


 

لم أعد للعيش معها إلا عندما بلغت الثامنة عشرة، بسبب انتقالي إلى المدينة للدراسة الجامعية. وهناك بدأت مرحلة جديدة من الاكتشاف القاسي: محاولة التعايش مع علاقة تحمل آثار العنف الذي تعرّضنا له معاً. حاولت، أقسم أنني حاولت، أن أرقّع ما يمكن ترميمه، أن أفكّك العُقَد، أن أفهم. لكنني وجدت نفسي عالقة في حلقة مفرغة من المحاولة. وفي النهاية، توقّفت.



 

العنف الذي يطحن النساء


 

كانت هذه أولى مراحل اكتشافي لمرض أمي. بدأت ألاحظ تصرّفات غريبة، غير مبرّرة، وعدوانية أحياناً، أنهكتني. كانت تلك أسوأ سنة في حياتي بكل المقاييس. أذكر أن معالجتي قيّمت اكتئابي بـ18/20 وقلقي بـ17/20، وقالت إن أمي ربما تعاني من الفصام. تأكد التشخيص لاحقاً. لم أعرف كيف أتعامل مع الأمر. كان الجرح الذي تركته أمي في صدري يكبر، مع أنني أعرف أنه ليس ذنبها ولا ذنبي. وما زلت أحاول فهم ذلك.


 

قرأتُ عن المرض كأحد آثار العنف البنيوي الذي يطحن النساء ويطبّع إيذاءهن، وبالأخص في حالة أمي، مع وجود عوامل وراثية أيضاً. وبعد سنة أخرى، حين أصبحت مستقلة عنها وبدأت حياتي المهنية، وجدت نفسي مسؤولة عن إعالتها بالكامل: حاجاتها اليومية، مصاريفها، وكل ما لا تستطيع القيام به بعدما صار المرض أكثر حدّة ومنعها من العمل.

خمسُ سنواتٍ وأنا أتحمّل هذه المسؤولية بكلّ ما فيها من ضغط، وسط أكبر انهيار اقتصادي شهده لبنان. ثم وصلتُ إلى اللحظة التي أصبحتُ فيها أنا أيضاً بلا عمل ثابت، أتنقّل بين مشاريع صغيرة أعتاش منها وأعيلها، لكنها لم تكن تكفي.

أقنعتني صديقتي بأن أطلب المساعدة باسم مجهول. قالت إنني لست مضطرة لتحمل كل هذا وحدي، وإنّ الفردانية التي نعيش داخلها وهمٌ يضعفنا. اقتنعت. كانت تلك أوّل مرة أعترف فيها لنفسي بأنني فعلاً بحاجة إلى المساعدة، وأنّ أمي تستحق حياة كريمة لا أستطيع توفيرها وحدي.

لم أتوقع هذا الكمّ من الدعم. لم أتوقع هذا القدر من الحب. لم أتوقع كل تلك الكلمات الدافئة والتضامن الصادق. بكيتُ مع كل رسالة تأتي من شخص لا أعرفه، تحمل تذكيراً بسيطاً بأنني لست وحدي في هذا العالم القاسي. وأنّ أمي أيضاً ليست وحدها. لسنا وحدنا. كلّ مساعدة - بمال، بكلمة، بغرض بسيط - كانت فعل تضامن حقيقياً، أقدّره من قلبي.


 

العيش ليس ترفاً

توقّفتُ عند اتصال واحد. كانت اختصاصية تحاول المساعدة، سألتني عن أعراض الفصام عند أمي. واجهتني بالحقيقة التي كنت أراوغها: ما اعتدته طوال حياتي ليس عادياً، وأن هذه السلوكيات والأعراض قد تتحوّل إلى إيذاء للذات، وأن أمي في مرحلة متقدّمة من المرض وقد تحتاج إلى دخول المستشفى ومتابعة طبية مكثّفة. لم أفهم في البداية، أو ربما لم أرد أن أفهم. العلاج طويل، مُكلف، ومرعب في تعقيداته.

قالت الاختصاصية إن من حق أمي أن تعيش حياة طبيعية، وأن تتلقى علاجها. قالت أيضاً إنه في ظروف مختلفة، لو لم أتلقَّ أنا الدعم المناسب، لوجدتُ نفسي في مكانها. كان صعباً أن أستوعب ذلك. وكان صعباً أن أبحث أكثر وأواجه المرض على حقيقته. لكن فكرة واحدة ظلّت تدور في رأسي: العيش ليس ترفاً. وأمي تعيش على الحدّ الأدنى. وهذا كان يعصر قلبي، ويضيف طبقة جديدة من الذنب لا يد لي فيها.

أرى أمي اليوم خارج حدود مفهوم الأمومة الضيق. أحاول فهم علاقتنا من زاوية الحب، لا الذنب. من زاوية التضامن، لا الخضوع. من زاوية النسوية، لا من الألم وحده. أحاول رؤيتها من خلال الحميمية، ومن خلال الأسئلة التي تفتح الباب، وليس تلك التي تغلقه. أحاول فهمها من خلال البيضة المسلوقة التي أطعمتني إياها عاماً كاملاً ولم تأكل منها. من حبّها وحبّي. من تقاطع المعاناة الذي جمعنا أكثر مما باعد بيننا.

هذا النص دعوةٌ للسؤال. دعوةٌ لتفكيك علاقتنا مع أمهاتنا، لمساءلة الحب أو الغضب أو اللامبالاة التي نحملها تجاههن. لفهمها حتى عندما تكون الصورة غير واضحة. مهم أن نُزيح بعض الغبار. أن نفهم مشاعرنا، مهما كانت ثقيلة أو متضاربة: حبّاً، أو حقداً، أو نقمة. مهم أن نفكّكها، وأن نراها في سياق النظام الأبوي الذي يطوّق هذه العلاقات ويشوّهها ويعيد تشكيلها جيلاً بعد جيل.

 



 

مدونتنا