كيف تؤرّخ النساء غربتهنّ؟
بعد غياب طويل، اتصل عاصم بي ذاك الصباح الشتويّ بامتياز بعد فترة انقطاع.
- كيفك؟ زمان عنك؟
- منيحة وانت؟ وكيف الطقس بألمانيا
- برد كثير وانتو؟
- كمان برد بس مش مثل برد ألمانيا!
ضحك عاصم كثيرا وقال لي:
- حديث أبيض بامتياز، كيف الطقس يا بنت الحركة؟ هيك صارت مواضيعنا!
ضحكت أيضًا ولكن أردت القول أنّ لا دفء هنا يا عاصم! أشعر بالبرد بطريقة غير اعتيادية في إسبانيا، وهو بلد متوسطيّ كبلادنا، أشعر بالبرد ولربما كنت أبحث فقط عن بعض الدفء في كلّ هذه المكالمة وفي هذا السؤال! لم أستطع يومها الاستفاضة في شرح ما أشعر، هو ادرك الأمر وحده، لم نطل المكالمة واكتفينا بالقول أنّنا سنتواعد يوما ما على اللقاء، قريبًا جدًّا.
منذ وصولي إلى هنا، ومع كلّ الظروف التي مررت بها وغيري من اللبنانيين واللبنانيات خلال الانهيار المستمرّ للبلاد، كنت دائمًا ما أوصف بالـ"ايكزوتيك". ولا أدري لماذا كنت أفكّر دائما بالفاكهة حين يقولها لي أحدهم بفخر، كمن استطاع تشخيص حالتي كامرأة من بلاد الحروب الدامية، أو بأفضل تقدير من بلاد الصحراء والجمال العربيّة. "إيكزوتيك"، تعني باختصار أنّني امرأة سمراء عربيّة وحُكمًا مسلمة حتى لو لم أكن، هذه هي هويتي، هكذا صيغت لي منذ اللحظة الأولى لوصولي إلى "أوروبا" مع كلّ تفاهة هذا المصطلح!
أفكّر مرارًا كيف يمكن للنساء الكتابة عن غربتهّن؟ كيف يمكن لامرأة "إيكزوتيك" أن تعيش هنا وتستمدّ الطاقة لنضال آخر مختلف عن النضال في مستنقعاتنا الفكرية؟ أرى أمثلة كثيرة واضحة لنساء عشن التهميش، العنف المؤسساتي، الفقر، صنع الحماية اليومية لهنّ ولمن حولهنّ ماديًّا ومعنويًّا. نساء تمّ إغراقهنّ في وحول المجتمعات التي تنقضّ يوميًّا علينا باسم الشرف والعائلة، ونساء تعبن واستسلمن وأخريات كافحن حتى الرمق الأخير. كيف لنا نحن النساء أن نكتب كلّ هذا، أن نؤرّخ تاريخًا شفويًّا مفقودًا لأجيال نسائية كاملة. أفكّر وأعود لأضحك على كلمة إيكزوتيك التي تردّد على مسامعي بشكل كبير وأصفن قليلا وأحاول أن أسترجع سرد كلّ تلك الأحداث التي صفعتني خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.
أعود معكم الى حدثين فقط، الأوّل في مقهى عند الساعة الثامنة مساءً، أجلس مع صديقتي من فنلندا، يأتي رجل في العقد الرابع من عمره، يبتسم كمن عثر على فريسة الليلة، يبدأ الحديث باللغة الاسبانية، ويقول:
- من وين انتو؟ هيدي الصبية روسيّة؟
اقتربت منه قليلا، طلبت منه مغادرة الطاولة وأجبته أنّ صديقتي لا تتحدث الاسبانية.
- انت عربيّة صح؟
- ايه و؟؟
- حسيتك عربية، ايكزوتيك، بترقصي شرقي؟ او بتقري بالكفّ؟
كنت في هذه اللحظة أحاول أن أتماسك نفسي، ألاّ أشنّ حربًا شعواء على تجهيل تام ّصنعته سياسات يمينية هنا على كلّ من يعيش خارج حدود أوروبا "الديمقراطية المتطورة".
- انت عم تجتاح مساحة النا، بتمنى تمشي ونكتفي بهالشي اللي صار لهلق.
- انتو كلكم هيك، شعوبكم مقموعة ونساءكم بتنضرب لانكم إسلام وهيك الدين بيقلكم، وبتجوا لعنا لتعيشوا حرية مطلقة لانو هيك نحنا عايشين. نحنا أحرار!
ضحكت على كلمة أحرار، وردّدتها بسخرية وقلت له بجدّية تامة:
- أنا مبسوطة انكم أحرار وعقبالنا نحنا!
لم تنته الليلة بايجابية كما اعتقدت، لم أستطع تمالك نفسي بعد هذا الخطاب الأوروسنتريك الذي لم يستطيعوا حتى تطويره بعد كلّ سنوات الاستعمار والتفكيك البنيوي للاستعمار ودراسات ما بعد الحداثة، الخ. وجدت نفسي فجأة امرأة بهويّة وتصنيف جاهزين لا مجال للتشكيك فيهما مهما حاولت.
الحدث الثاني الذي سأرويه، وضعني في أزمة مع امرأة مهاجرة من كولومبيا. كنا في حفلة وداع صديقة في احد المطاعم الشعبية، أربع نساء من دول مختلفة نلتقي بكثير من التفاصيل اليومية، نلتقي بكثير من الدموع بعد معارك خاسرة، نلتقي بمعارك واحتفالات لتجارب اقتلعناها ممّن حولنا، ونكاد نكون عينة صغيرة عن كلّ النساء في العالم. هذه الليلة لن أنساها أبدا، كنا نتحدث مع مجموعة تجلس الى جانبنا، من كوبا، ونضحك، كانت ليلة لطيفة جدا فيها خفّة لا توصف، أتت هذه المرأة، نظرت في عينيّ مباشرة وبغضب شديد قالت لي:
- مكانك مش هون، فلّي!
وقعت كلماتها عليّ كالماء البارد على جسدي، نظرت مطوّلا اليها وسألتها إذا كانت تعرفني أو تظنني شخصا آخر! لكنّها كرّرت هذه الجملة، وسارعت الى دفعي للخروج من المكان. وقفت مذهولة من الحدث، امرأة كولومبية من لهجتها فلي أصدقاء وصديقات من كولومبيا، نظرت مجددا، رأيت غضبا ولكنّي رأيت أيضا خوفا يأكل عينيها. حاولت الاعتذار اذا ما بدر شيء مني من دون قصد وقلت لها نحنا ننتمي الى قضية مشابهة، نحن مهاجرات، هي لاتينية وأنا عربية، سمراوات أيضا ضمن التصنيف المحليّ ولكن بين السمار هذا وذاك، قمع وخوف وآلام وبحث عن حياة أفضل. فشتمتني. ابتسمت، عدت الى الطاولة ونزلت دموعي. بكيت لا لاحساسي بالاهانة في هذه اللحظة بالذات ولا لأنني لا أستطيع الدفاع عن نفسي، أحسست للحظة أنّني خسرت معركة لم أبحث عنها، مع امرأة مثلي، عاشت ربّما قلقا وخوفا أكبر مما عشته أنا في بلادي، ربما فقدت أهلا، أصدقاء وأعزاء وما زالت تصارع هنا كامرأة حادة قويّة. بكيت لأنني أردت أن ترى في عيوني ما مرّ عليّي في غربتي، ونسكت، نختار أن نضحك ربما أو أن نبكي أو أن نشتم كلّ هذه الحياة معا.
لقد عشت غربتين، هذا ما أستطيع تأريخه اليوم. غربتي في لبنان وبيروت التي صدّروها لنا أنّها البديلة لمناطقنا، لضواحينا وعشوائياتنا، بيروت الأندرغراوند، التي قيل لنا أنّها تحتضننا نحن النساء وتمنحنا جرعة الحريّة التي نبحث عنها لحظة بلوغنا. غربتي في بيروت كانت قاسية باللغة العربيّة، بكلّ العنف الذي مورس علينا كنساء، بكلّ المساحات التي كانت مرتعًا لفاسدين، متحرشين ومغتصبين بحجّة الانفتاح، بحجة رفاق المحن والقضايا الحقوقية. في لبنان، بيروت تحديدًا كانت غربتي الأولى والغربة الثانية هنا في إسبانيا، واضحة المعالم مهما حاولت الاندماج، مهما تعلّمت اللغة، مهما تحدّثتها بطلاقة، مهما ارتبطت يوميًّا بأحاديث العالم الأبيض الأوّل وتناسيت مدنك. أعيش غربة بأحسن أحوالي فيها إمّا أنا ضحيّة أو امرأة إيكزوتيك.