كان عاماً لانتظار البكاء الذي لا يأتي

يتبدّل رأيي في اليوم مئة مرّة. أعرف أنّ لي مبادئ ثابتة وجذور أكثر ثباتاً، لكنّي ضعت. أبقى أم أرحل؟ هل أنا مع الحرب أم ضدّها؟ وكيف أفصل كل ما يحصل عن عاطفتي وما هو شخصي في داخلي؟ رحلتُ؛ بالأحرى حملنا عائلتنا الصغيرة وهربنا من الحرب. وتقبّلت أنه في بعض الأحيان، حين يكون التاريخ في طور صناعة نفسه، لا بأس إن لم يكن رأيي واضحاً - لنفسي أوّلاً ولغيري ثانياً. الأعوام الخمس السابقة كانت كلها غريبة، والأحداث فيها ضخمة وسريعة، لكن هذا العام كان الأغرب والأصعب.

 

كان عاماً لتقبُّل الموت

كنتُ قد توقّفت عن الصلاة قبل سنوات، لكن هذا العام، حين ضاعت الجثث تحت الركام، عدتُ وصلّيتُ كي تجد الأم ابنتها؛ وذلك لعجزي عن القيام بأي فعل آخر.

وحين شاهدتُ النزوح الكبير، بكيتُ قهراً لا حزناً.

حاولتُ وحاولتُ وحاولتُ أن أحرّك نفسي، كي أقول إنّي أصنع تغييراً، لكنّني في النهاية جمدتُ، واقتنعتُ أنّ كلّ محاولاتي للتغيير لن تنفع، والواقع آتٍ لا محالة.

تقبّلتُ هذا العام أنّ الموت قد يكون قريباً، وأنّ احتمال وقوع السقف فوق رؤوسنا ليس بعيداً، ولم أخف على نفسي، بل على طفلي.

 

كان عاماً للخدر 

كان عام فقدان القدرة على البكاء. يقيس عقلي دورة السنة من أكتوبر إلى أكتوبر. وفق هذا الشريط تمشي ذكرياتي، فيبدأ المشهد من مستشفى المعمداني وينتهي في الضاحية الجنوبية لبيروت. ينام ابني نوماً عميقاً. أنظرُ إليه، وهو لا يتحرّك. وأتخيّل أمّاً في غزّة تنظر إلى ابنها الذي لن يستيقظ، فأبكي قهراً لثوانٍ قليلة، ومن ثمّ يعود الخدر.

بكيتُ كثيراً في بداية الحرب، إلى درجة أن الحليب في صدري جفّ، ولم يعد بإمكاني إرضاع ابني. ومن بعدها، توقّفتُ، وسيطر الخدر. لذلك، حين بدأت الحرب الشاملة لم أتمكّن من التعبير كما يجب، وانطلقت محاولات سيطرتي على كل ما هو حولي، من طريقة ترتيب المنزل، وصولاً إلى تحديد كميات الطعام التي يجب أن أتناولها في اليوم الواحد. هذه المحاولات كانت تفشل كلّما وقفت على الشرفة ورأيت الدخان يتصاعد بعد القصف الأخير، فأقول لنفسي: "كلي المنقوشة، شو فيها هالدني"؟

 

كان عام بلاد الشام 

أجلسُ في عمّان، وأتابعُ الأخبار من بعيد. ينقسمُ قلبي بين فلسطين، لبنان، وسوريا، وأشعر أنّنا، نحن أولاد وبنات هذه البلاد، نرحلُ أمام أعين العالم كأنّنا لا أحد. هرميّةُ الكوكب تأبى أن تضع أرواحنا إلاّ في الأسفل. 

أنظرُ إلينا وسط كل الألم، ونحن نضحك بطريقة لا تشبه سوانا، بطريقة لا تشبه إلا بلادنا. كيف نرمي الورد والأرُز فوق الجنازة، ثمّ فوق المُحرّرين... كيف نرمي الورد والأرُز فوق كل من قاوم ثمّ فوق مواكب العائدين... وأبتسم لأنّي أشبه كل هذا التناقض، وبداخلي قلب يحب كل هذه البلاد، وقلبٌ يفهم كلّ تلك الحقائق المتوازية وكلّ تلك الآراء المتعارضة. 

 

كان عام الخوف على الحجر

وضعتنا أمّي في السيارة بعد التحرير عام 2000، وقادت بنا حتّى وصلنا إلى قريتنا في البقاع الغربي. كانت المرّة الأولى التي تطأ فيها أقدامنا تلك الأرض، أرض والدنا وأجدادنا. بدأت أمّي فوراً بوضع خطتها لبناء منزل محاط ببستان من التفاح، والزيتون، والتين، والكرز. أذكرنا صغاراً نحوم حولها ونطالبها بدرج: "بدنا درج متل درج سندريلا"، وأذكرها تضحك وهي توافق على كل طلباتنا. وفعلاً، بنت أمّي المنزل وحرصت على وجود "درج سندريلا" بداخله.

في إحدى زياراتها الشتوية للقرية مع أبي قبل انتهاء البناء، قالت له: "لن أسكن هنا"، وتلك كانت حقيقة. فمع حلول فصل الربيع، بقي المنزل لكن ماتت أمّي.

في نهاية العام الماضي، كنت كلّما اتصلت بأخي أسأله عنه. أحياناً كان يجيب، وفي أغلب الأحيان لم يكن يملك إجابة. عاد أخي إلى البستان بعد الحرب، وقطف كل ما تبقّى من الزيتون، وتأكّد أن المنزل بخير. كان فقدان هذه الأحجار سيكون بمثابة فقدان آخر ما بنته يداها على هذه الأرض. لم أكترث يوماً للبيوت، لكن هذا العام علّمني أن البيوت عزيزة، وأن الحجارة تحمل حكايات سكّانها. لذلك، نخاف من احتمالات فقدانها ونبكي على دمارها.

 

كان عاماً للكتابة 

نحنُ بطبيعتنا ميّالون إلى اختيار الراحة بدلاً من التعب. وفي حالتي، لطالما كنتُ أجدُ نفسي أحقّق قليلاً مما أسعى إلى تحقيقه، في نهاية المطاف، ولم أكن أبالي. هذا العام هو أكثر عام اختبرتُ فيه معنى ألا نمتلك دقيقة واحدة خاصة بنا، واكتشفتُ خلاله أنه يمكن إنجاز الكثير في عشر دقائق فقط، وذلك لأن وجود طفل صغير يغيّر كل معادلاتنا في الحياة.

هذا العام فهمتُ معنى التعب الحقيقي، معنى البكاء من قلّة النوم، واكتشفتُ أن أمّي لم تكن مثالية لأنّه لا يوجد أم مثالية، ولأنّي لست أمّاً مثالية.

في دوّامة التعب وتكريس نفسي للأمومة، استيقظ صوت داخلي لطالما كان موجوداً، لكنّه هذه المرّة تكلّم معي بطريقة مختلفة: "إذاً لا تريدين أن تكوني موظّفة ولا تريدين أن تكوني أمّاً فقط، ماذا تريدين أن تكوني؟".

تنبّهتُ أنّني، وفي غفلة منّي، حقّقت حلم طفولتي بأن أصنع من الكتابة مهنة لي. كنت قد نسيت هذا الحلم كليّاً. أغلبنا ينسى أحلام الطفولة، أو يقلّل من قيمتها، بعد تحقيقها، لكنّي حين أدركت الأمر، في لحظة، أطلقت ضحكة عالية.

منذ حوالي عشر سنوات، أغلب ما أفعله هو الكتابة، وأنا، في نهاية هذا العام، فرحة بهذه المرحلة التي انتهت نوعاً ما.

حين طرح الصوت الداخلي عليّ كل هذه الأسئلة، كان جوابي واضحاً: أريد أن تعود الكتابة لي. أعتقد أنني وصلت لمرحلة أملك ما أقوله، وأؤمن أن لما أقوله قيمة خارج نفسي. ولهذا السبب أنا ممتنة لهذا العام، لأنه كان عام الانضباط والكتابة حتّى الثالثة فجراً، عام كتابة الجزء الأوّل والثاني والثالث في عمّان، والرابع والخامس في لبنان.

على الرغم من كل الدمار الذي أحاط بنا، كان هذا العام، على صعيد شخصي جدّاً، عام بداية تذكّر الأحلام وتحقيق ما تبقّى منها.

مدونتنا