فصلٌ من حدادٍ علنيّ على أمومةٍ لن تكون
قبل صورة الثدي الوقائيّة السنويّة، تسألُني اختصاصية تصوير الأشعة: "معقول تكوني حامل مدام؟ عندك أولاد؟". الإجابة في الحالتين هي: "كلا".
اختصاصية التصوير إنسانة عمليّة، هادئة، وتعرف شغلها. تفحصني كما تفحص عشرات النساء. تُكرّر الأسئلة ذاتها، والخطوات ذاتها في كلّ مرّة. أسئلتها ليست موجّهة إليّ أنا بالتحديد. لكن بمجرد وقوفي لدقائق، عارية، أمام آلة التصوير الباردة، أشعر كأنني على وشك التفتُّت كزجاج منثور.
محظوظة بالقدرة على تحمّل كلفة فاتورتي الصحية. الرعاية الصحية في بلادنا ليست عادلة وليست حقًّا للجميع. أفكِّر بنساء لا يحظين بتغطية التأمين. كثيرات يُضحّين بزيارات الطبيب الدوريّة لتوفير المال لـ"أولويات أخرى".
أما أنا، فكما يقول المثل: "لا وراها ولا قدامها"، أي لا زوج يتبعها ولا أولاد يسيرون أمامها. أو العكس؟ الزوج في المقدمة، ثم الزوجة، ثم الأولاد؟ لا أعرف، المهم... السؤال عن الحمل والأولاد يضحكني، ثمّ يربكني، كأنني مستهدفة أو مضبوطة بالجرم المشهود.
عمري 39 عامًا، وذلك وحده يوحي للآخرين بأنّي على الأرجح أمٌّ، بينما في الواقع، أنا واحدةٌ أقصى طموحاتها الجلوس في الشمس مع قططها.
"لو بدها تشتّي غيّمت"
"معقول تكوني حامل مدام"؟ في السابق، كنتُ قد تدرّبتُ على الإجابة المثالية عن هذا السؤال، أخرجها من جعبتي حين يلزم: "لو بدها تشتّي غيّمت" (أو "لا غيم بدون مطر"). كان هذا الردّ من طرائفي الأثيرة التي لا تُضحِك أحدًا سواي.
قبل مدّة، تسجّلتُ في صفّ تمثيل، فاختبرت أشياء لم أتوقّعها: أن أتفهّم مشاعري، بدون إنكارها أو طمسها. تعلّمتُ، مثلًا، ألا أستخدم السخرية في مشهد غاضب، للهروب من أحاسيس تزعجني.
لهذا، وبينما كانت آلة التصوير تومض وتئنّ، قرَّرت الاحتفاظ بنكتتي عن الغيوم والمطر لنفسي. لا داعي لأن أسخر من نفسي في كلِّ مرّة يُفتح موضوعٌ يَنخزُني في مكانٍ مؤلم.
لم أنجب، ولا أعتقد أنني سأنجب، ولن أصير أمًّا، ولا بأس. يمكن أن تُقرأ هذه الجملة بطرق مختلفة: بغضب، وانزعاج، وحزن، وإحباط، وانعتاق، وتفهّم، وحبّ، وسلام، وتصالح، وتحرّر، وشجاعة... وكلها أطياف مشاعر تمثّل حقيقتي، رغم تناقضها.
في داخلي طفلة في الثالثة عشرة، محبطة مما آلت إليه الأمور. طفلة أمضت أيامها تحلم بفستان أبيض، وتأزّمت حالتها بعد مشاهدة فيديو كليب "قولي أحبك" لكاظم الساهر عشرات المرات، مسحورةً بكل فساتين العرائس فيه.
في داخلي شابة في الخامسة والعشرين، في حدادٍ على أمومةٍ لم تعشها، وعلى أولاد لم تلدهم، ولم تعرفهم، ولم ترهم يكبرون. كانت تحلم بزواج عن حبّ، وبإنجاب فتاة تسميها ديانا على اسم أمها. تتفرّج على أيدي الأطفال الصغار، ملفوفين في أحضان أمهاتهم، وتنتظر دورها.
وفي داخلي امرأة في الثلاثين، راودتها فكرة السفر يومًا ما، فقط لتتمكّن من زراعة جنين في بلد بعيد، حيث يمكنها تربيته بدون الحاجة إلى شريك لم يظهر في حياتها، وبدون زواج، أو تبريرات، أو أحكام، أو عيون جاحظة، وبدون أي نقاش عبثيّ في المحرّمات.
وفي داخلي امرأة في السابعة والثلاثين، "جابت آخرها"، كما يقول المصريون. سئِمَت. يزعجها ضجيج الأطفال، صراخهم، همومهم، مشاكلهم، والأحاديث التي لا تنتهي عن فروضهم المدرسيّة. مقتنعة بأنّ قططها في الواقع "أحسن من مية ولد".
وحولهنّ جميعًا، تقف امرأة اشتدّ عودها، ستبلغ الأربعين العام القادم. امرأةٌ تحتضن طفلة الثالثة عشرة، وشابة الخامسة والعشرين، ونساء الثلاثين. لا تبتلع الإحباط، ولا تخنق الحداد، ولا تمحو السأم، لكنّها لا تقف عند الـ "ماذا لو؟". لا ندم على احتمالات أخرى، ولا حسرة على مصائر بديلة. في حدادها على أمومة لم تعرفها، قبولٌ، وسلام - لا شفقة، ولا يأس، ولا تمرّغ في دور الضحيّة، ولا دراما مفتعلة، ولا هلع.
قططي لسن أولادي
ما المشكلة؟ لم ألتقِ بالشخص المناسب، لم أرتبط، لم أُنجب، ولا أعتقد أنني سأنجب، حتى لو التقيت لاحقًا بمن يشاركني حياتي ولبستُ الفستان.
صرتُ خبيرة في طرد التوقعات الاجتماعية بعيدًا عن سلامي الداخلي، وعن رغباتي الحقيقية، الصادقة، الحادّة، والتي لا جدل فيها.
أشرح للناس دومًا أن قططي لسن بديلاً عن الأولاد. قططي لسن أولادي. لا يعجبني هذا التشبيه، ولا هذا التنميط لمُربيات القطط.
قططي هنّ مديرات البيت، الأرواح الحارسة، ولسن "بنات" ولا "صبيان" أحد. لو كنت أبحث عن "تعويض"، لربّيت كلبًا.
كل ما في الأمر أنّ إعادة رسم حياتي من جديد، أو محاولة إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء، عبث.
أعرف نساءً أنجبن في الأربعينات، وسلكَت أمورهنّ. وأعرف صديقات جمّدن بويضاتهنّ كي لا يفقدن الانتظار والأمل. لكنني ببساطة لم أعد أرغب بذلك.
لسبب ما، بات تضاؤل احتمالات الأمومة في حياتي يمنحني حريّة مطلقة أخجل أحيانًا من التعبير عنها بالفم الملآن، خشية أن أبدو فظّة.
لا أكترث إن كنتُ سأصبح أمًّا أم لا، لكنني في الوقت ذاته أرى عند الأمهات والآباء عاطفة لن أختبرها، وأخشى أن تكون خسارتها فقدانًا لا يُعوَّض، حتى وسط غنج القطط اللامتناهي، ومواهبهنّ الروحية الطاغية.
لا أكترث بالأمومة، لكنني في الوقت ذاته أتفرّج بذهول على صور أبناء صديقاتي الذين باتوا بطولهنّ، وأتخيّل ذلك الفخر الذي قد تشعر به الأم وهي ترى ابنها وقد أصبح رجلًا أطول منها.
ما جنيتُ على أحد
لا أكترث بالأمومة، لا أندم لأنني لم أنجب، والآن أعرف – بثقة ووضوح وقبول - أنني لا أريد الإنجاب.
وفي الوقت ذاته، أخشى فجاجة هذا التصريح وقسوته، بينما تحاول نساءٌ الإنجاب بشتى الطرق، ويفشلن، ويحزنّ، ويتألمنّ، ويخفن، ويشعرن بالفشل والخسارة. وأنا؟ امرأة لا خلل بيولوجي يمنعها من الإنجاب، لكنها لم تُنجب، ولم تعد تسعى لذلك، حتى لو أُتيحت لها الفرصة.
لا أكترثُ إن لم أصبح أمًّا، ولا أطيقُ أعباء التقديس والمثالية والتضحيات الخارقة التي تُلقى على عاتق الأمهات. أجدها ظالمة.
حين تكونين الأخت الكبرى في الأسرة، تختبرين بعضًا من تلك المسؤوليات بالوكالة، في أغلب الحالات. ربما في داخلي أخت كبرى سئمت من أدوار التربية والرعاية والمسؤولية؟ لا ألومها.
وفي الوقت ذاته، تملأني تضحيات أمي من أجلنا، نحن أولادها، بالخجل، والذنب، والغضب، والشعور بالظلم.
أمضيتُ معظم حياتي أحاول إنقاذ أمّي من أمومتها، وفشلتُ. أُقنعُ نفسي بأن عليّ احترام خيارها، حتى وإن لم يعجبني… حتى وإن كان يؤلمني.
فكرة الأمومة ثقيلة، وترهقني. كأنكِ، حين تصبحين أمًّا، تتراجع كل الأدوار الأخرى في حياتكِ إلى الهامش.
ومع ذلك، أذوب إعجابًا بصديقات يربين أبناءهنّ وبناتهنّ بتوازن، بحبّ واثق لا يلتهم صحتهنّ، ولا يستهلك أعصابهنّ، ولا يذوّب شخصياتهنّ، ويتجاوز كل ما كبرنا عليه كنساء من تدجين وتخويف.
تعجبني أمهات أعلم أنني لا أملك ربع ما يملكن من شجاعة، وقوّة، وصبر، وقدرة على تحمّل المسؤولية بدون أن يتركنها تلتهمهنّ.
ذلك الوفاء بالمسؤولية… كم هو خطير، مرعب، هائل. أعلم أنه يُرعب الأمهات من جيلي، ويؤرّقهنّ. ربما أخشى أن أصبح أمًّا، كي لا "أجني على أحد"، كما قال أبو العلاء المعري؟
في حياة أخرى
لا أكترث إن لم أصبح أمًّا، لكني في كلّ مرة ألتقي بشاب أو فتاة من "عمر أولادي" المفترضين، أتخيّل شريط حياتي الأخرى، تلك التي كان يمكن أن تحدث ولم تحدث.
حياتي الأخرى حيث أكون أمًّا، بجسد حمل روحًا أخرى لتسعة أشهر، بثديٍ مرضع، ويدين قويتين، تعرفان كيف تغطّسان طفلًا عمره أيّام بالماء الدافئ.
يا إلهي، كم هنّ جبارات، أولئك اللواتي ولدن أطفالهنّ في الحقول والغابات، ومن بعدهنّ جداتنا اللواتي أنجبن سبعة أو تسعة أو أحد عشر ولدًا.
ومن بعدهنّ كلهنّ جئتُ أنا، امرأة تملك ترف الاختيار، لا يوصمها أحد بالجنون، ولا تُحرَقُ على عودٍ خشبيّ لأن رحمها بقي خاويًا.
ثمّ كيف كان يمكن لديانا الحفيدة أن تكون؟ أكيد شخصيتها قوية. ماذا لو كانت تجادلني كثيرًا، ولا تحبّ القطط؟ هل كانت ستشبهني؟ هل كانت ستصير نسويّة مثلي؟ لماذا تصير نسويّة؟ هل ستكون من أولئك الفتيات اللواتي وُلدن وحقوقهنّ مضمونة، فلا يدركن جدوى النضال الذي سبقهنّ؟ يا إلهي… كانت ستُتبعني هذه الفتاة لو جاءت.
أخاف أن أصبح أمًّا، لكن أحيانًا أفكر كيف كان يمكن أن أكون.
في صفّ التمثيل، التقيت بشربل، طالب مسرح في الثانية والعشرين، أي نصف عمري تقريبًا. ولسبب ما، تخيّلت أنه قد يكون شبيهًا بابني الذي لم ألده. شربل يمثّل في دعاية تلفزيونية لمسحوق تنظيف، يحتضن جدّته، ويبدو كأنه الابن المثالي. شعره مجعّد، عيناه تلمعان، وابتسامته ابتسامة نجم سينمائي.
قلتُ له إنني، في حياة أخرى أو زمن آخر، ربما كان لديّ ابن في مثل سنّه. راقت له الفكرة، وحضنني، كأنّه يفهم، من دون أن يقول: "من أين ظهرت لي غريبة الأطوار هذه؟"
لا أعرف شيئًا عن علاقته بأمّه، لكني أتخيلها سعيدة بابنها الذي وزّع الورود على من يحبهم احتفالًا باقتنائه دراجة نارية جديدة. وهذا وحده دليل على أنها ربّته جيدًا، وأنّه سيكون لها سندًا في أيامها. هل كنتُ سأقدر على تربية ابن يعرف أن يتشارك فرحته مع الآخرين؟ لا أدري.
"خلّصنا مدام، على سلامة"، يعيدني صوت اختصاصيّة التصوير إلى حياتي الحاليّة. أرتدي ملابسي، ولا أتعجّل الخروج.
أفكّر بأن ضغط إجراء فحص روتيني بسيط يمكن أن يقصف عمري، فكيف لي أن أمتلك شجاعة حمل جنين في رحمي لأشهر؟ ربما أنا أضعف من أن أصير أمًّا… أم أن العكس هو الصحيح؟
ربما أملك الجرأة والصلابة لأكون نفسي، لا أكثر ولا أقل، بدون لقب "ماما"، بلا شعور بالنقص أو حاجة إلى الاكتمال.
الفكرتان حقيقة من حقائقي المتعدّدة، وتتعايشان معًا في رأسي.
أتوجّه إلى سيارتي، أفتح الباب، أجلس خلف المقود، أربط الحزام، أتفقّد القطط على تطبيق كاميرا المراقبة، كلهنّ نائمات في أماكنهنّ، الأمن مستتبّ في المنزل، أشغّل المحرّك، و"بلايلست" كلودا الشمالي.
أنا امرأة لم تُنجب، ولن تُنجب على الأرجح، ولن تصير أمًّا. أقولُ لنفسي إنها قد تكون خسارة، لكنها ليست مصيبة.