عن "ليليان"، دميتها وكلمة "ماما"

في إسبانيا، بات من الأسهل أن أقول أنّني من لبنان! فمنذ ذلك اليوم، ينظر اليّ الناس، يهزّون رأسهم بحسرة ويقولون:

"محزن ذاك الانفجار في مرفأ بيروت".

حدثٌ يصعب حتى على من لم يعشه يتفاصيله أن ينساه. ولكن ما وددت دائمًا أن أقوله تعقيبًا ولم أستطع، أنّ الانفجار لم يصب مرفأ بيروت فقط… الانفجار أصابنا جميعًا، وربّما قتلنا جميعًا، جعلنا موتى.

 

أعود بالذكرى الى ما قبل عامين من اليوم، أنا امرأة في عزلةٍ تامة في بلد جديد، كورونا تضربنا بعرض الحائط، موت وبعده موت، إنهيار كامل للعملة وانهيار لمقدّراتي كما الملايين غيري في لبنان. مالٌ بسيط جمعته خلال سنوات طويلة من العمل سُرق، مشاكل الإقامة كمهاجرة في بلاد تكره المهاجرين، رحلة البحث عن عمل متواصل لدفع ما عليّ من أقساط. باختصار إحساس كامل بالعجز.

 

ولكن في تلك الفترة وبعد إصرارٍ من صديقتي وأهلها قررت زيارتها في مارسيليا لتمضية أسبوع نقاهة قد يستطيع أن يزيح عنّي كلّ هذا الكرب. أكتب هذه المقدّمة لا لأروي رحلتي إلى مارسيليا بل لأقول أنّ ما شاءته الأقدار في ذاك اليوم، الرابع من آب/أغسطس 2020، أنّني وبعد وصولي بثلاثة أيّام، قررنا يومها زيارة المرفأ، مرفأ مارسيليا.

 

كنت أنظر إلى المرفأ واقول لصديقتي "آنا"، كم تشبه هذه البقعة مدينتي بيروت. مقاهٍ مليئة بالفرح، عمّال وعاملات يلهثن بين الطاولات لتلبية طلبات زبائنهم، سيّاح يقفون لأخذ صورة تذكارية، ومهاجرين ومهاجرات يسترزقون في الشارع ببيع كلّ ما يخطر في بالك، ينتظرون في الشمس الحارقة علامة تضيء لهم يومهم أو تنذرهم بيوم أفضل.

 

قلت لصديقتي "آنا" فلنشرب كأس بيروت، تلك المدينة التي غادرتها كما كثيرين وكثيرات قسرًا، شربت الكأس، نزلت دمعة حب للعمر الذي مضى هناك، للأصدقاء والصديقات الذين رحلوا ولعمر ربّما سيمرّ بعيدًا بعيدًا.

 

ثواني وتلقيت اتصالًا من فلسطين:

  • ألو يارا أهلك مناح، أصحابك مناح؟

 

وقع قلبي على مرفأ مارسيليا… وسارعت بالاجابة:

  • شو بهم أهلي، شو صاير؟
  • صار انفجار ببيروت، بالمرفأ..

 

أقفلت الخط، نزلت دموعي في الكأس، مالحة كالبحر. "آنا" تنظر إليّ تحاول فهم ما جرى.. أنا أمسك هاتفي كالمجنونة أقلّب صفحات الفيسبوك وأرى المشهد تلو الآخر وكأنما أحاول نفي الخب، وتنهمر الدموع دون صوت، دون حركة. أقف، أجلس على الأرض، أتصل بأمي، مرارًا وتكرارًا، لا جواب.. أتصل بأخي، أرسل رسالة، خالتي، أختي.... لا أذكر بمن اتصلت لحظتها. ولكنني أذكر أنّي ارتميت على الكرسي، كمصاب بعد حرب، تقطعت أوصاله.

 

أمي بخير، هذا ما قالته أختي لي، بعض الجروح الطفيفة. " ما تقلقي".

  • ماما إنت وين؟
  • أنا منيحة بس بحكيكي بعدين...

 

انقطع الخط...

 

اللحظات التي مرّت لم تتجاوز الدقائق،  نحن هنا على مرفأ مارسيليا، آنا ما زالت تقرأ الأخبار، ما زالت دموعي تنزل كالسيل، مالحة كالبحر تحرق وجهي وكلّ ما أحسسته لحظتها أنّي مذنبة، خنت كلّ من أعرف، لمَ لست هناك، كلّ ما تمنّيته حينها أن أكون هناك وربما قد يكون أسهل لي أن أكون بعداد الأموات..

 

منذ سنتين وأنا أحاول أن أكتب عن الرابع من آب.  أحاول أن أراقب عيون الأمهات اللواتي فقدن أفرادًا من عائلاتهنّ، ابنًا أو بنتًا، أو زوجًا، عن صديقات أصبن في الانفجار، عن نساء فقدن الرغبة في الحياة، عن التروما الجماعية التي نحاول تغطيتها بابتسامات كاذبة وإصرار مخيف على الاستمرار في هذه الحياة. منذ سنتين وأنا أحاول أن ألملم أوجاعي مع صرخات العائلات في الشارع، ممّن لم تتحقق العدالة لهم، عن إهراءات قمح اسقطوها وأسقطونا معها، عن عذابات نساء بلادي ليس فقط من الانفجار بل من عهود طويلة من التعذيب الممنهج منذ أيّام الحرب الأهلية وملفّ المفقودين، من سنوات طويلة من نعي أبناء، بنات، أزواج، آباء وإخوة لهنّ رحلوا، قتلوا على أبواب المستشفيات، برصاص طائش، بحروب قوى وسلطة ميليشيات. أحاول أن أكتب عن الأمل الذي يصحو كلّ حين  وحين وما يليه من الخيبات. لكنّي لم أستطع لعامين أن أشارك حتى نصًّا بسيطا، لم أستطع ضمّ كلّ هذا الوجع بباقة من الكلمات الى اليوم.

 

لمَ اليوم؟ اليوم رأيت فيديو ليليان شعيتو، ليليان شابة، أصبحت طريحة الفراش منذ عامين بعد إصابتها في الإنفجار، فاقدة تماما القدرة على التواصل مع من حولها بعد أشهر من الكوما. ولكنّ ليليان تختصر كلّ الظلم الممنهج الذي نعيشه كنساء في بلادنا. فلم تكن فقط ضحية الإنفجار بل ضحية قوانين ومحاكم شرعية أفقدتها حقّها كأمّ برعاية طفلها ورؤيته.

 

ليليان اليوم تعانق دمية هي كلّ ما يربطها بالواقع، دمية لا أنفاس لها، باردة، تمثّل ما حولها من عنف مجتمع أبويّ يصرّ في كلّ ثانية ونفس تلفظه ليليان من رئتيها أن يعاقبها على كونها امرأة، يحدّد حريّاتها وحقوقها حتى وهي طريحة الفراش.

 

ليليان قالت ماما بعد عامين من الصمت، كلمة واحدة نطقتها. لم تبك، لم تئنّ، قالت ماما وصمتت من جديد. أمّ محرومة من رؤية إبنها وسط إصرار عائلة طليقها على منع الإبن من زيارتها. كيف لنا أن لا ننطق بعد ذلك؟ كيف لنا أن نصمت أكثر، نعضّ على الجراح، نُقتل، نعدّ قتلانا ونحقن جرعة أخرى من الموت البطيء في شراييننا. كيف يمكننا نحن النساء طوي كلّ هذه الصفحات، فكم من صفحة نمتلك في كتابنا؟

 

عامين على مجزرة هذا النظام الأبويّ القاتل والمتسلّط،، نظام يهدم كلّ من وما حوله، أرهقنا بالبحث عن خبز يومنا، شقّ طريقه الى ضلوعنا، منعنا من التحكمّ بقراراتنا، بأجسادنا، بمستقبلنا. نظام يعيش فقط على الموت، على جثثنا، يسفك الدماء كلّ يوم ولكن تخيفه دماء "الدورة الشهريّة". عامين يا ليليان، وأنت هناك في سريرك البارد، أنا أعلم كم هي باردة سرائر المستشفيات. تناضلين لتنطقي كلمة ماما، تنادي به طفلك الذي حُرمت منه كما كثيرات في لبنان، ولكنك تنادينا أيضًا، علّنا نستفيق من غيبوبتنا، نضرب عن الطعام، نقفل المدارس، نتوقف عن إكمال حياتنا كأنّ هذا هو قدرنا، الاكتفاء بما لدينا.. 

 

أحاول يا ليليان التوقف عن البكاء منذ سنتين وأكثر، أحاول أن أمسح دموعي، أشدّ على يد نساء مدينتي وبلدي، أحاول أن أتوقّف عن البكاء، أصرخ، أنادي بصوتك كلمة ماما، أردّدها وأعيدها على مسامعي علّ هذه الكلمة التي أثلجت قلب أهلك ولو لثواني، أن تشعل غضبا، غضبًا يحاصر من قتلونا ولا يتوقف. 

مدونتنا