عن الوحش الذي حرمنا الحبّ
أمضيتُ سنوات وأنا أستيقظُ ليلاً مفزوعة. أترك فراشي وأتّجه إلى غرفة والداي. أقترب من أمي. أمدّ أصابعي نحو كتفها. أنتظر أن تُزهر عيناها في وجهي. تفتحهما، تبتسم، ثمّ تسألني: جوعانة؟
أهزّ برأسي موافقةً. تخرج من فراشها إلى المطبخ بينما أنتظرُ في العتمة. تعود وفي يدها تفاحة. أسحب التفاحة منها وقبل أن أقضم، تقول: تعي. أقفز إلى سريرها. أنام في قلبها. تنام التفاحة في قلبي. لا وحوش في هذا الفراش. أغفو.
كنتُ صغيرة. وكانت أمّي تحبّني. كبرتُ. لم تعرف أمي، أنّ هربي إليها كان سبيلي الوحيد إلى النوم. في عودتي إلى حضنها أستعيد الطفلة التي أضعتها في الحديقة الخلفيّة لمنزل الجيران. أضعتها من دون درايةٍ منّي. لم أطلب شيئًا. لم أهرب. انتظرت. لم تعرف أمي أنّي بهربي الليلي كنتُ ألتقط فرصة متأخرة في الهرب. قدرتي التي فقدتها أمام جارنا والوحش النابت بين فخذيه. لم أهرب. تحرّك الوحش. انتصب. انبهرت. ما هذا النابت في بنطال الجار؟
توقفتُ عن الهرب عندما بدأت التبوّل ليلاً. توقفت عن الهرب عندما امتدّت أصابع من داخل البيت إلى داخل بنطالي. أصابع مسّدت على وحشي الصغير. خفت. استمتعت. لم أهرب. استجبت. آه هذا هو الحبّ؟ أن يُمسّد فردٌ من العائلة بين فخذاي؟ آه! هكذا نبت وحش جارنا؟ هل سينبت لي وحشٌ مُتحرّك كوحشه؟ ايماءة واحدة بعينيه: أتوجّه طواعية إلى الفراش. أتمدّد. يتمدّد إلى جانبي. يُغطّي جسدينا بشرشف أمي. يُمسّد بأصابعه الكبيرة بين فخذاي. يترك بعضًا من أنفاسه في وجهي. يستمتع تباعًا. أستمتع تباعًا، ربما. يشتدّ لهاثه. انتهينا. أخرج وأعود إلى اللعب على السطح. فقدتُ فراش أمي. صرتُ أتبوّل في فراشي. غرقتُ في البول ودفئه. غرقتُ في النجاسة.
|||
هربتُ متأخرة. خطّطت طويلاً للأمر. لكنه يبقى هربًا متأخرًا. أحبّ تسميته الهرب الكبير. تتألّم أمي. لا بأس. ألمٌ أخفّ من ألم يا ماما. أختار أوجاعها. أختار لها لأني أعرف مصلحتها. لم تكن علاقتي بأخوتي البنات شديدة. علاقة أخوّة عادية بين أربع بنات. فترات متقلّبة حكمتها عوامل كثيرة: السنّ والتجارب والوضع العائلي... نحب بعضنا لأشهر ثمّ نعود لعاديّتنا. نبتعد لأشهر ثم نعود لعاديّتنا. لكن الحبّ موجود. متين غير ظاهر. نساء العائلة قويات. يفضّل الرجال من حولنا القول بأنّنا "مشلّفات". قوة قد تكون مُبالغٌ بها. قدرة هائلة على تدبّر الأمور، حلّ المشاكل، اصلاح الكهرباء في البيت... وفي عدم التعبير عن الحبّ. نُبالغ عندما نحزن. نُبالغ عندما نغضب. نحترف المعاناة ولا نعرف الحبّ. لا نتلامس. لا نقترب. كأننا حقل ألغام مؤجّل الانفجار. كائنات هشّة تخاف أن يُفسد العناق طبيعتها. نغضب بإتقان. نحزن بإتقان. نخاف بإتقان. أمّا الحبّ... فيأتينا في أشكال محددة ويغيب في مواضع كثيرة. أجدهنّ حتمًا عندما أحتاجه لهنّ. يجدنني حتمًا عندما يبحثنَ عنّي. لكن حلقة ما كانت مفقودة في علاقتنا. قويّات خائفات حذرات. بدأت الاقتراب منهنّ عندما هربت. بدأنَ الاقتراب عندما هربت. صرتُ أهتمّ أكثر. صرنَ يهتمِمنَ أكثر. تبادلنا الكثير ولكن احترفنا البقاء على السطح. خوفٌ ما حكم بيننا. نجتمع على حب بعض الأشخاص، ونتردّد في مشاعرنا تجاه آخرين. تشابه مُربك. صرنا نقترب بحذر. نقترب أكثر. نقترب بحذر.
||||
أصبتُ بنوبة هلع. شعرتُ بأن منفاي مهدّد. خفت. ارتبكت. حكيتُ لصديقتي. لم أكتفِ. في لحظة انهيار، اتصلت بأختي. حكيت. استمعت. تركتني أحكي من دون تدخّل. كنتُ أحكي عن الرجل صاحب الأصابع الكبيرة. كنتُ أحكي بعموميّة مطلقة. شعرتُ بأطراف حديث لا مرئي. شممتُ رائحة الخوف. اختنقت. شعرتُ أنّ في صمتها ذهابٌ أبعد من التفاهة التي أنطق بها. شعرتُ بشكوكها. ذهبتُ أبعد. اختبرتُ اللحظة. قد تكون هذه هي اللحظة. اختنقت فنطقت. بكيت. لم تبكِ أختي. همهمت. حلّ صمت طويل قبل أن تقول: "آه، إنتِ كمان؟ ما كنت بتوقّع".
لحظة. هل سمعتُ جيّدًا؟
حكت عنها. حكت عن الجار وحكت عن الرجل ذو الأصابع الكبيرة. ابتلعت هلعي الطازج بهلعها المؤجل. كلامٌ لم يخرج في يوم. خرج الآن. فَهِمَت ما كنتُ أحكي لها بسهولة. كأنّي كنتُ أحكي لها عنها. طلبت منّي الاتصال بأختنا الأكبر. وكذلك أختنا الأكبر. طلبت منّي أن أفعل، إن كنت أرغب. انتبهت إلى أنني قد لا أرغب. وبأنّ لي الحق في التصرّف. في لحظة، لم أعد صغيرة البيت. عاملتني معاملة الراشدات. جميل. فعلت. تكرارٌ. مشهد واحد. حديث واحد. تفاصيل واحدة. اختناق واحد.
|||
لا عبرة في القصة. هذه مجرّد قصة قصيرة لطيفة... أو حزينة. لا أعرف. هي قصة اختناق جماعيّ لمجموعة من النساء عشنَ في بيت واحد، وولدنَ من أمّ واحدة. وحشٌ مشترك طاف فوق أجسادهنّ؛ فخفنَ واحترفنَ الصمت والهرب. وحشٌ حبس الحبّ. ثمّ جاء الكلام وحرّره. كلامٌ لمرة واحدة. لم يحتجنَ لأكثر. يكفي أحيانًا أن نعرف. يكفي أحيانًا أن نحكي. جعلنا الكلام أقرب، أكثر تفهّمًا، أكثر انصاتًا. جعلنا أكثر حرصًا الواحدة على الأخرى. ربما نشفق على بعضنا البعض. ربما تُواسينا فكرة عيش قصة متشابهة. كثيرٌ من الاحتمالات. أحبّها جميعها.
صدّقتُ قصّتي بعد أن عرفت قصصهنّ. آه، لم أكذب على مدار السنوات. لم أختلق قصصًا في رأسي. لا أعرف. ما زلت أشكّ أحيانًا. ولكن أقلّ. عندما أشكّ طويلاً، تُخرجني إحدى أخواتي من أوهامي. تُخرجني بحبّ من القاع. تؤكّد شكوكي وتطبطب عليّ. لا نغرق بالحبّ اليوم. لكنّه هنا. أراه. أنظر إليه من بعيد وأراه. أنتظر أن يتدفّق أكثر. أراه يتدفق يومًا بعد يوم. أنتظر. تمامًا كما انتظرتُ أن يأتيني أمر الذهاب إلى غرفة النوم أو إلى الحديقة الخلفيّة. يزرع عقلي الشكّ في كل مكان. يُقارن بين انتظاري لأخوتي وبين انتظار المُعتدي. سأتصل بأختي، ربما أحتاج لاتصال جماعيّ. أحتاج إلى حضن. حضنٌ جماعيّ يُطبطب على قلبي... وعلى قلوبهنّ.