عن الدورة الشهريّة، الرجال والطعام

لا أذكر أنّي تحدّثت يوماً مع أمّي حول العادة الشهريّة، لا أذكر مطلقاً كيف استقبلتها وهل كنت متفاجأة أم تقبّلت الأمر بطبيعيّة. كلّ ما أذكره أنّني من تلك الفتيات التي ضربتنا العادة بوقت مبكرٍ نسبيّاً وها انّي عند الحادية عشرة من العمر وجدت نفسي قد بلغت.

الألم حين كنت في ذاك العمر لا أذكره، أكاد أجزم أنّني أيضاً من الفتيات المحظوظات مع أمّنا "الطبيعة" وما تمنحنا ايّاه من خيرات. فبلوغي كان أشبه بالاعتياديّ، لم ترافقني حبوب المسكّنات ولم تلازمني أوجاع البطن والرأس والظهر الاّ بعد العشرين. كنت ما أزال تلك الطفلة التي تنزف كلّ شهر مثل كلّ نساء العالم، لا يوجد ما يميّزني الاّ حين أدركت أنّ هذا النزيف سأحاسب عليه لاحقاً ان أتى بغير موعده.

أبي كان يعيش لفترة طويلة في الجنوب، كان النظام السوريّ حينها يلاحقه ممّا يضطرّه إلى لتنقّل كلّ فترة من منطقة إلى أخرى ويحتّم عليه تغيير هويّته وشخصيّته تلاؤماً مع الحالة. لن أنكر أنّ هذه الحياة كانت تعجبني، على الأقلّ حينها. كنت أرى نفسي فتاة مميّزة، عاشت مع جدّيها وخالتها في بيت واحد، تربّت على أيدي كل الجيران والأقارب ومُنحت الحبّ من كلّ المقرّبين بحجّة غياب أمّي وأبي. ولكن ما كان يشغل خيالي الواسع دائماً، تلك القصص عن الجاسوسية وإحساس المغامرة الذي كنت أعيشه لدى زيارة أبي خلال الأعياد والعطل والشهور الثلاثة في الصيف. كان يجعل منّي هذا السفر من بيروت الى الجنوب بطلة الرواية فكنت ولوقت طويل أضيف على قصّة أبي الاضطراريّة الكثير من البهارات لزوم استقطاب المزيد من الاهتمام.

كلّ هذا الحبّ الذي منح لي صيغ بأنانيّة أحياناً منّي تجاه من حولي. فأذكر جيّداً حين كان يشتري لي أبي طعامي المفضّل “سندويش شاورما دجاج مع توم إكسترا” ولا أستطيع إكماله، أرميه دون أن يشعر أو دون أن أقول له مع العلم أنّه كان دائماً ما يسألني:

اذا ما قادرة تخلصيه لوحدك، أنا باكل الباقي…

ولكنّني لم أعي حينها ما معنى أن أرمي ما تبقّى من طعام، ولن أقيسه الآن على الإحساس بالآخر والفقراء والمحتاجين وإنّما وعيت له تماماً حين نبذت علاقات كثيرة في حياتي بحجّة التخمة، بحجّة الشبع من فيض الهرمونات الذي كان يربكني لدرجة الغثيان والإعياء. كنت أتخلّص من علاقاتي كما أتخلّص من سندويش الشاورما، دون أن يراني أحد، “بالسرقة”, وتعلو ملامح الذنب على وجهي في انتظار اكتشاف الجريمة. هكذا كنت أشعر حين أجعل العلاقة تنتهي، كي لا يسرق منّي أحد ما ليس له، كي لا يرى من معي طيّباتها، فأسارع إلى رميها بعيداً، رميها ومن ثمّ استقبال غيرها دون النظر إلى الخلف. كلاّ أنا أكذب، كنت دائماً أنظر إلى الخلف، علّ عقلي يجذبني إلى التقاطها مجدّداً، إلى العودة عن هذا الهروب.

ولكن يمضى الوقت وأبي كان يدرك فعلتي (رميي للطعام) فيعاقبني. أمّا في علاقاتي فلا حساب من الآخر ، لذلك حرصت أنا على معاقبة نفسي بالدخول كلّ مرّة في نفق جديد والهروب منه قبل نهايته.

  • - مرحبا، لو سمحت بدّي علبة فوط صحيّة!
  • - أيّ نوع؟
  • - أيّ شي!!

كنت أتلفّت حولي كي لا يراني أحد، لا يسمعني أحد وانا أطلب من البائع هذا الشيء "المحرج". ألم يكن يكفيني حاجتي إلى طلب ذلك من رجل في دكان بالقرب من البيت؟ وكانت تدور الأفكار في رأسي حول هذه المصيبة، لا أريد أن يدرك أحدهم أنّني بلغت أي ما كنّا نقوله بالعاميّة “جايتني”. في المدرسة كنت أخفي الفوط الصحيّة في كمّ القميص وفي الجامعة كنّا نركض كمن يخفي “عورته” عن أعين الناس فنحمل كلّ أغراضنا معنا كي لا يشكّ أيّ ممن حولنا بأنّنا في تلك الحالة الشهريّة، كي لا يعلم الآخرون أنّا “مرضى”. أمّا المصيبة التي تقع فعليّاً، حين كانت تباغتنا في غير موعدها ونبدأ معها حملة البحث عمّن تمتلك من الزميلات إحدى هذه الفوط في حقيبتها! أو أن نكتفي بإخفاء الجريمة بوضع الجاكيت أو القميص على خصرنا، نربطهما جيّداً علّنا نخفي عار هذا المرض.

لم أتخطى كلّ هذا الخجل كي لا أطلق عليه اسما آخر، الاّ في وقت لاحق، حين أحببت جسمي للمرّة الأولى بعد كرهي له مرّات ومرّات ومرّات.

هذا العار الذي صاغه المجتمع وحمّلنا ايّاه، أضيف عليه ثقل ما بعد البلوغ، ثقل الغشاء وحمايته من أيّ ثقب، من نزيف غير مبرّر الاّ بالفضيحة. فتحوّل هذا النزيف الى تطهير شهريّ لما تراوده لنا أنفسنا من رغبات وحاجات وبدأت بجلد الذات أكثر مع كلّ فكرة تمرّ في خاطري حول الرجال. إلى  أن عدت الى تلك الحادثة الأولى التي وضعتني أمام فهم لهذه الحقيقة حين دخلت الى صيدليّة يوماً لأشتري علبة من الفوط الصحيّة وأعطوني عن طريق الخطأ تلك العلب (tampons) التي تستخدم “للنسوان” ومش “للبنات”. أذكر يومها تلك النظرة على وجه أمّي حين قالت لي متفاجئة:

  • - شو هيدي ليه جايبتيها؟

لم أستطيع الجواب عن السؤال لأنّني حقيقة يومها لم أمتلك أيّ جواب! فقلت لها:

  • - ما بعرف، قلتلهم بدي فوط وعطوني هيدول!!
  • - هيدي ما فيكي تستعمليها!

وكان السؤال الذي يعيد نفسه في رأسي، ألست “نسوان”؟؟ ما أنا بتجيني متل النسوان!!

وضعت العلبة في الجارور يومها، رميت ساندويش الشاورما على الطريق سابقاً، وتخلّيت بعدها عن كلّ العلاقات التي تنظر إليّ بعين التمييز بين “البنات” و”النسوان”، تخلّيت عن كلّ من يجعل من بلوغي يوم إحتفال ورأيت نضجي في أعين الناس عار ومأساة.

مدونتنا