صديقةٌ تديرنا إلى الضوء حين ننطفئ
كنتُ قد رأيتكِ أكثر من مرة، بصدفٍ لم أعرها أي اهتمام، كما كانت عادتي بألا أُعير اهتماماً لكلّ ما هو حولي، لكنكِ عدتِ بقصدٍ وعن وعيٍ بقلم حمرة، بضحكةٍ وبكتابٍ مَدَّد كلامنا ليوم آخر. كُنت قد رأيتكِ، وقال شيءٌ ما بداخلي: "اتبعيها قليلاً، ففيها ما يعرفك وتعرفينه. لا بأس إن لم تفهميه اليوم، ربما في عقدٍ لاحق ستضحكان على بداية الصداقات وكيف لا ننتبه لتكوينها". والآن بعد أن تحوَّلت الأيام لسنوات، أكتب إليك هنا، كأنّك واحدة لكنك كلّ الصديقات اللواتي دخلن قلبي وغيَّرن مساري.
سنة ثانية بيروت
صادفتكِ في منتصف العبث، حين كانت بيروت تفوق قدرتي على التحمّل، ولم أكن أفهم ما هي حدودي. للأمانة، لم تتغيّر بيروت، لكن لُطفها الزائف زال، وبعد سنواتٍ من الصراع تقبَّلتُ عدم قدرتي على مجاراتها. لكن كان هناك ما هو جميل عندما مشينا فيها سوياً، نحن اللتان لا نشبه بعضنا بشيء.
أذكركِ صغيرة، لا شيء مشترك بيننا سوى الوظيفة. أنت الآتية من مكان مستقرّ، تتنقلين في يومك الواحد من نشاطٍ إلى آخر. تملكين قدرة خارقة على العمل، منزل بعنوان محدّد، وأب يُقلِّك في الليالي الطويلة. وأنا الآتية من عنوان رقم أربعة، وطموح أن ينتهي دوام العمل بأسرع وقت ممكن.
في منتصف العبث، قررتُ ترك القسم المسؤولة عنه لأرتاح على الكرسي الموجود في قسمك، حينها رأيتكِ تهمِّين بالرحيل حاملة كتاب "ميتش ألبوم". بناءً على الأفكار المسبقة التي بنيتها وسمعتها عني، لم تفهمي سبب اهتمامي بالمحتوى. أعرتني الكتاب، وأخبرتني الشهر الماضي أنك صُدمتِ حين ردَدتُه بعد أيام باكية وشاكرة إياك على الباب الذي فتحته لي. في تلك اللحظة، أعطيتني أنا البالغة من العمر 21 عاماً، مرساة، أستخدمها كلما تخبّطت، وأبواباً أفتحها كلما تعلَّق الماضي بي.
يأتي صوتك من الخارج وأنت تقولين: "عليك أن تغيّري كل ما يحيط بك، انتقلي إلى مكان آخر وعاودي الكرة كما تفعلين دوماً". وكعادتي كنت أسمعكِ وأتعلَّم منكِ بكل ما تملكين من منطق ومعرفة شرسة لما تريدينه وتطلبينه من الحياة. وفي كل مرة خفتُ فيها، وبُحت لك عن أخطائي واجهتني بحب. وعندما حلَّ عليَّ الحب من الخارج، جاء صوتك طالباً مني عدم الهرب. وهكذا تسلّل صوتكِ إلى داخلي ليعلِّم صوتي أن يكون محباً معي، ولم أعد أخاف. في منتصف العبث أعطيتني أيام آحاد طويلة مليئة بالضحكات، رفقة لطيفة وصدفةً جاءت لتخبرني أنه ليس على الصديقات أن يكنَّ من نفس الطينة.
خسارتي الوحيدة
أعلم أن الأوان قد فات، وكل واحدة منا في عالمها وأمومتها، لكن يجب أن أخبرك أنك كنتِ دائماً استثنائية، بجمالك وبهُدوئك. وأنني لا أملك تبريراً لغيابي في تلك الليلة، وعوضاً عن مواجهتك من بعدها، تراكم الخجل وكما كنتُ أفعل حينها، هربتُ من ذنبي عبر هربي منك.
لم أعد نفسي السابقة، وربما لو جلسنا الآن وتحدَّثنا كما كنا نفعل، ستصدمين لكمّ الأفكار التي تغيّرت بداخلي والحب الذي بقي نفسه.
لن أكذب عليك، لا أفكر بما حصل كثيراً، لكن عندما أتذكركِ، يتحرّكُ قلبي قليلاً وأحزن كثيراً، ووحدي أتحمل مسؤولية الخسارة والغياب. كنتِ دائماً استثنائية وبقيتِ حتى اللحظة الأخيرة الصديقة الأجمل بيننا.
أمل جراح ونينا سيمون
أرى وجهكِ أمامي، يعلو قليلاً ويضحك، فأعلم فوراً أننا سنقضي نهارنا باللهو والاستماع إلى إيتا جايمس ونينا سيمون. كنا صغيرات جداً، بقلوب متعبة لا تدرك أن الطريق لم يظهر بعد. وكنت أنا مبهورة بكمِّ المعلومات التي تملكينها. لم تكن المعلومات هي المهمة، بل الحساسية التي كنت ولا زلت تملكينها لكل ما هو حولك.
أرانا دائماً على الشرفة في مار الياس في العام 2012، وأسمعكِ تطلقين تلك الضحكة الصاخبة والكلمات النارية التي لا يتوقعها من لا يعرفك. لا أعلم إن كانت الصداقة مستمرّة، ولكنِّي أعلم أنه على الرغم من انتقال يومياتنا من غرفة صغيرة معتمة إلى مدن وحيوات منفصلة، أنك تجلبين لقلبي الفرح وأنني لا زلت أنبهر بك وبيدك التي تتحرك صعوداً ونزولاً وأنت تدندنين موسيقى تحبينها، مغمضة عينيك كأنك وحدك تدورين حول الشمس، كأنك أنت الشمس.
منزل معتم، يد بيضاء
أشعر أحياناً أن صداقتنا تختفي، في السابق كنت أخاف، أما الآن فبتُّ مدركة أنها ستعود لتظهر كما هي، صداقة ثابتة وقائمة بشروطها الخاصة.
حين كنا صغيرات، تحديداً في بداية المراهقة التحمنا وربما الآن فقط فهمتُ حجم الوجع الذي اختبرناه بعد رحيلي وانفصالي عن كل ما كنت أعرفه، وصدقيني حين أخبركِ أن الانفصال لم يكن جميلاً ولم أكن جاهزة لخوضه، ولم أنتبه لهذه الحقيقة إلا فيما بعد.
ربما كان يجب أن نحكي أكثر عن آلامنا، لكنها لم تكن طبيعتنا وكنا نعلم أن الرابط أبدي. فأنت وحدكِ الشاهدة على الماضي، وأنا وحدي أذكر كل ما حصل، كدخولك إلى المنزل في آخر الليل وإخراجي من العتمة، كحضوركِ الدائم حين يغيب الجميع، كاستماعي لك في مشاوير الصباح وتكراري لطريق النحل، كمعرفتي تفاصيل حبك الأول وحبك الأخير وألوان شعرك عبر السنوات... ككونك الصديقة التي أمسكتُ يدها منذ الصغر، ووضعتُ سوارها على معصمي طوال فترات الرحيل والانفصال. وربما هذه هي كل تفاصيل الصداقة.
من الجنوب إلى بيروت
أكتبُ عنّا أثناء توجهي من الجنوب إلى بيروت، المكان المثالي لصداقتنا المتنقلة والثابتة بين المدن والقارات. كنتِ أنت من أخرجني من قوقعتي حين أعطيتُ بيروت فرصةً ثانية، في الطابق 12 طرقتِ الباب لمدة عام كامل قبل فنجان القهوة الأول، وكنت أفرح بوصولك مع كل طرقة. وهناك، حين جئت حاملة أقلام الحمرة من "طريق الجديدة"، رأيتك فرحة، تبتسمين وفهمت مدى براءتك.
هذه البراءة التي حملتها معك إلى بلاد بعيدة، جعلتني أجزم أنه في كثير من الأحيان تحمل الصداقات المفاتيح الأساسية لحياتنا، وأننا نحن النساء، أهم ما يمكن أن نحظى به، هو صديقة واحدة حقيقية نتكلم معها من دون خوف. صديقةٌ تواجهنا عندما نخطئ وتديرنا نحو الضوء حين ننطفئ. عندما رأيتك المرة الأخيرة، تنبَّهت أنك كبرت أكثر نحو نفسك. ومجرّد مراقبتك تخططين وتحققين أحلامك، أعطتني دافعاً للعودة إلى أحلامي.
كنِت أنت من أخرجتني من قوقعتي وغيَّرت خزانة ملابسي، وكنت أنت من نقلت لي القدرة على تقبُّل الذات. أعترف أنك حين رحلتِ أخذتِ بيروت معك ولم أعد أعرف ماذا أفعل بيومياتي، فبيروت مدينة لا تطاق من دون صديقة مقربة، ولهذا السبب لم يكن قرار الخروج منها صعباً. حاولت أن أعوّض غياب صديقة يومياتي وتفاصيل حياتي، لكن ما نملكه هو ملكنا فقط، وهو ما بنيناه بجهد خارق وبكثير من السماح والبراءة.
أرسلت لي مرة، ما كتبه وديع سعادة: "الذين بلا أقدام حين تنظُر إليهم بحبّ، يصيرون بأجنحة". في عمق الأوقات الموحشة، ولأنك رأيتني بحب، خرجت برفقتك ومن أجلك، فوجدت أجزاءً مفقودة من عالمي، تنتظرني. وربما حين نخاف، كل ما نحتاج إليه هو صديقة تمشي بالقرب منا وتخرج معنا نحو المجهول.
***
إن أردتُ مراجعة كل ما مضى من حياتي، سأرى أن جزءًا كبيراً من أفكاري ومن مساري تكوَّن بسبب صديقاتي، إما بسبب أحاديث وعشرة وقرارات مشتركة أو بكل بساطة بسبب المراقبة والتأثر.
وسأرى أيضاً أن السعادة الأساسية تكمن في الجلوس مع الصديقات، إن كان في غرفة مقفلة أو غابة شاسعة. وأن الحب مهما كان عظيماً لا يعوِّض الرابط الذي تكوِّنه النساء بين بعضهن البعض.
ما بعد الأمومة، حين قررت التفرغ لطفلي خسرت حياتي الاجتماعية دفعة واحدة، ولم أعد أعرف من أنا من دون أي تفاعل خارجي. وفجأة في هذا العالم الجديد بدأت الوجوه الجميلة بالظهور وحدها ومن دون دعوة، هكذا لأنها خفيفة ولا تحتاج إعلان قدومها.
تقول لي هذه الوجوه: سآخذ طفلك منك اجلسي وحدك قليلاً. في مرات أخرى تأتي وتخرجني من المنزل وتعيدني إلى البحر والكتابة والحياة العملية.
في أكثر مراحل العزلة التي اختبرها، آخر ما توقعتُه هو تكوين صداقات جديدة وعودة صداقات قديمة، كوَّنتها مع نساء يبذلن مجهوداً لرؤيتي فيذكِّرنني بالحياة بعيداً عن الأمومة، وفي الحقيقة هذا كل ما تحتاجه كل أم: امرأة أخرى، تسمعها تضحك معها، وتساعدها ولو قليلاً. وما لم أتوقَّعه أيضاً، أو بالأحرى ما كنت قد نسيته هو أن الأخوات هنَّ أجمل الصديقات، وأنا بدل الواحدة لدي ثلاث.