شيرين وريم... كم نفتقدُكما الآن

أثناء قراءة هذه التدوينة، أنصحكن بالاستماع إلى أغنيتيّ: "لم تكن تلك حكايتي"، و"انتظريني"، لريم بنا.

عندما يخطف الموت أحبتنا، يتسلّل إلى قلوبنا سؤال "ماذا لو؟" في حالتي، أسأل: ماذا لو كانت أمي هنا؟ كيف كانت ستتصرف، على سبيل المثال، عندما اشتعلت النيران في بيت الجيران وكادت تلتهم المبنى بأكمله؟ كيف كان لوجودها أن يغيّر مجرى الكارثة؟ في الواقع، نجت عائلة الجيران، ولم يخسروا سوى قبوهم وما فيه من كراكيب.

خلال الأشهر الماضية، وأنا أتابع من بعيد الإبادة الجماعية في غزة، أجدني غارقة في التساؤل ذاته حول غياب سيدتين رحلتا عن عالمنا، وأتخيّل، لأسباب كثيرة، أن وجودهما كان ليحدث فرقًا ما، ويعطينا سندًا معنويًا من نوع آخر، أمام هول الفاجعة. أفكر كلّ يوم: ماذا لو كانت شيرين أبو عاقلة وريم بنا هنا، معنا، الآن؟ أفكّر كم أفتقدهما.

أدرك تمامًا موقعي البعيد عن الجريمة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين في غزة. أطرح سؤالًا مجازيًا، وأكتب عن مشاعري بعيدًا عن ضجيج الطائرات، ومن دون أن أشم رائحة الدماء، ببطن ممتلئ، وفم رطب. أحاول، ما استطعت، ألا أرمنس بالفاجعة، ألا أكثر من الفرضيات التي قد لا تغيّر شيئًا في الواقع. ولكن، لنا ما يكفي من الذكريات مع ريم وشيرين لنردك حجم الفقد بغيابهما، في لحظات مماثلة. ساهمت كلّ واحدة منهما من موقعها، في تشكيل وعينا تجاه فلسطين، لكنهما، مثل أمي، ليستا معنا الآن.

لو غنت ريم ألمنا

عندما فقدت المناضلة الفلسطينية والمغنية والملحنة ريم بنا (1966-2018) صوتها بسبب شلل أوتار الحنجرة، جراء الإصابة بالسرطان، واصلت مقاومتها بالغناء، وأنجزت ألبومها الأخير "صوت المقاومة"، الذي صدر بعد وفاتها بأشهر.

تضمّن الألبوم تقنية تجريبية تسمّى "صوتنة البيانات"، حولت بها ملفاتها الطبية إلى نغمات موسيقية، دُمجت مع قصائد وحكايات من تأليفها، ألقتها حينًا وغنّتها حينًا آخر، بقدر ما سمحت لها حالتها الصحية بذلك.

تجاوزت ريم ألمها، وأكملت نضالها رغم كل شيء. فما الذي كانت لتفعله في زمن الإبادة، هي التي واجهت المرض وخسارة صوتها؟

كانت ريم تحوّل الألم إلى غناء. من ضمن ألبوماتها الـ 13، كان ألبوم "مرايا الروح" الصادر عام 2005 استثنائيًا، إذ خصصته للغناء عن الأسرى الفلسطينيين والمعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

في مدينة الناصرة، بعد تسع سنوات من الصراع مع سرطان الثدي، رحلت ريم عن عالمنا في 24 مارس/آذار 2018.

كنت أنا من كتب خبر وفاتها. أوكلت لي المحررة في غرفة الأخبار حيث كنت أعمل حينها المهمة. كنت أحب ريم، وأرغب بالحزن عليها وتأبينها بتأن وروية. موتها لم يكن مجرد خبر عاجل ننشره، فهي رفيقة ليال طويلة من الدراسة، والكتابة، والانتظار المؤلم لاعتراف من حبيب محتمل.

كان يفترض بعام 2013، أن يكون سنتي الأخيرة في الجامعة، ولكن سبقتني دفعتي في التخرج. أصدرت ريم آنذاك ألبوم "تجليات الوجد والثورة"، فنكأ الجرح. كنت أرغب بمشاركة صفي حفل تخرجه. في عقلي أناضل من أجل اختبارات الفصل الصيفي. سجّلت موادًا أكثر من قدرتي، أهجس بالنجاح فيها. رافقتني ريم، ربت صوتها على كتفي، وأنا أقلّب صفحات الكتاب، أسفل القمر المنير، أدرس في الشرفة فجرًا.

من ذلك الحين، ارتبط صوت ريم في عقلي بالمساندة غير المشروطة، حتى أثناء المحاولات الضالة، التي نغرق فيها جذلًا بأمل واهم، على علمنا بخاتمتها الكارثية مسبقًا، لكننا نمضي فيها، ولا نندم.

ولأن ريم كانت فردًا من العائلة، أتساءل: كيف نملأ الفراغ المستمر الذي خلّفه رحيلها؟ من يمدنا بتلك المساندة غير المشروطة؟

أمور بسيطة قد نفعلها جميعًا، لكنها حين تصدر من ريم، تصير شأنًا عظيمًا. كلمتها مسموعة. لو نشرت منشورًا على فيسبوك، تندّد فيه بالإبادة، ولو خطّت رسالة وجمعت تواقيع من فنانين عالميين، من كل من شاركوها الغناء والعمل الموسيقي... كلمة من ريم كانت لتغير من وطأة الكارثة.

ربما، وكما فعلت في إعادة صياغة فحوصها الطبية، كانت لتحوّل ألمنا اليومي إلى موسيقى، تصمّ آذان القتلة.

نفس شيرين الطويل

رافقت شيرين أبو عاقلة يومياتنا لأكثر من عقدين، بصوتها وتغطياتها لجرائم الاحتلال من فلسطين. كنا نراها على الشاشة كل يوم، تخبرنا القصة. حتى بعدما قُتلت برصاصة إسرائيلية خلال أداء عملها، بقيت سلطات الاحتلال تخاف من جثمانها. شيرين في نعشها، كانت ترعبهم.

كان لشيرين مكانة كبيرة لم ندرك حجمها إلا بعد استشهادها. بعد رحيلها، انتشرت كلماتها على مواقع التواصل وهي تقول: "بدها طول نفس، خلي المعنويات عالية". خلال أشهر من الإبادة، أفكر بما بقي فينا من نفس ومعنويات، وأتذكر صوتها المطمئن.

لم تكن شيرين صحافية عادية. مع سطوة السردية الإسرائيلية، كان عملها يحدث فرقًا. عام 2005، سمحت لها قوات الاحتلال بدخول سجن عسقلان لتلتقي بأسرى فلسطينيين مضى على سجنهم أكثر من 20 عامًا. بكشفها عن آلام الأسرى وحنينهم لعائلاتهم، أزالت شيرين الكثير من الدعاية الزائفة التي يبثّها الاحتلال. أتساءل عما كانت ستنجزه في تغطيتها لما يجري الآن، ثم تتملكني فكرة صعبة: لم يكن الاحتلال ليسمح لها بالنجاة.

عندما علمت بوفاة شيرين، كنت قد تركت عملي الصحافي واتجهت إلى كتابة السيناريو. عرفت الخبر من تويتر وأنا ممددة على سريري. أتيحت لي فرصة الحداد والبكاء مع أصدقائي الافتراضيين. كان الجميع يرددون: "شيرين من أهل البيت". ترى، هل أدركت شيرين قبل رحيلها وحجم الحب المخصص لها في قلوب عائلتها الممتدة؟

خلال عمل شيرين الدؤوب كمراسلة ميدانية، راكمت أدوات هامة للتأثير، ولفضح فداحة الجرم الذي ينسى العالم أنه مستمر ومتواصل منذ أكثر من 70 عامًا. وهذا عين ما كانت تريده وتفعله دومًا، من خلال عملها كما كانت تقول: "ألا تصبح القضية على الرف". لو كانت معنا، ربما لن تكون الإبادة على الرف اليوم، ويعيش العالم حولها أيامًا عادية. شيرين وجع... عفوًا، وجه أصيل في الصحافة، يتجاوز تأثيرها، القناة التي عملت فيها، واللغة التي تحدّثت بها.

غياب ريم وشيرين، خلّف فراغًا يؤكد حضورهما الدائم في وجداننا. ورغم الكارثة التي نواجهها اليوم، لم ننسَ كم نفتقدهما. ذكراهما حاضرة في أذهاننا، كتمائم، ترافقنا في هذا الليل الطويل.

مدونتنا