ذكّرتني قيادة السيارة كم أنني حاقدة
"يلا وليييه!". لم أصدّق. هل يكلّمني أنا؟! إنه السائق في السيارة خلفي. ماذا يريد؟ أن أعلو وأطير فوق السيارات أمامي، لكي يتجاوزنا. نفد صبره، ويريد أن يستفرد بالطريق بدون "نسوان".
"يلا وليييه"! لا أتذكّر متى نهرني أحدٌ بطريقة مماثلة. ربما حين كنت صغيرة؟ سمعتها لوهلة بصوت أبي، وشعرت أنني مخطئة، لا بل مذنبة، وكدت أبكي.
كنت أعتقد، أنني مع العمر، والتقدّم المهني، وما يرافقه من شبه استقرار ماديّ (في غالبه وهميّ ومُهدّد)، صرتُ أمتلك ترف النأي بالنفس بعيداً عن شريعة الغاب. وجدتُ في ذلك خلاصي النسوي الوحيد الممكن، في ظلّ الظروف القائمة، وتخيّلتُ أن النسوية الغاضبة الحاقدة في داخلي قد أحيلت إلى التقاعد. تخيّلتُ على عشرة القطط أنني لم أعد مضطرة لإخراج مخالبي طوال الوقت.
أجلسُ في بيتي، أقفلُ بابي، وليكن الذكور ذكوراً قدر ما يشاؤون؛ ليُعنِتروا خارج مساحتي، خارج مداري، وخارج مجالي البصري. أرتّب حياتي كي لا أتعثّر إلا بقلّة من الرجال "غير المزعجين"… إلى أن جلستُ خلف المِقْود، وكرجتُ بسيارتي على الزفت، فوجدتُني كفأرة بين أقدام الفيلة.
كنتُ أظنّ أنّني أتقنتُ اختيار معاركي مع المنظومة الأبوية، ولكن على الطريق بين السيارات، شعرتُ أنني بلغتُ مرحلة الوحش في لعبة تنتهي دوماً بخسارة البطلة. فمهما عملنا على تحرير أنفسنا من التدجين المتراكم، وحطّمنا الصور النمطية، نعود لنجد أنفسنا كنساء في أدوار لا تشبهنا: قاصرات، وناقصات عقل، غبيّات، مزعجات، و"ولايا".
نقول إنّ تجارب العنف الجندري، الصريح منه والمبطّن، مشتركة، رغم اختلافها وتفاوتها. نحكي قصّة امرأة واحدة، كأنّنا نحكي قصص النساء جميعاً. لكنّي لم أكن أدركُ مدى عنف تجربة القيادة إلى أن اختبرتها بنفسي، وفهمتُ.
أستعيد هنا فكرة أظنها بديهية بالنسبة لي، لكن كلما ردّدتها، ازددت يقيناً بأنها ليست بديهية عند كثيرين: ليس كل العنف الجندري السام سكيناً على الرقبة، أو كدمة زرقاء تحت العين، أو نظرة تستبيح، أو يدًا تتحرّش. قد ننجو، إن كنا محظوظات، من تجارب وحشيّة مماثلة؛ لكننا كنساء لن ننجو من تفاصيل العنف العشوائية التي تحفر مثل نقط مياه عنيدة في الصخر، وتشكّكنا بأنفسنا، بطاقاتنا، بعقولنا، وبقوّتنا، وبقدرتنا على الدفاع عن أنفسنا.
لم أتعلّم القيادة حتى أواخر الثلاثينات، لأني كنت أخاف من السيارات، بعد تجارب حوادث سير كارثية في عائلتي ومحيطي؛ وربما أيضاً لأنني في قرارة نفسي كنتُ أعرف أنني سأتعرّض لعنف أنا بغنىً عنه؟
أتذكّر أبي يحاول تعليمي القيادة حين كنت في السابعة عشرة. كان يصرخ عليّ عند أي حركة، لكنه كان يشجّع أخي ويكلّمه بثقة. صدّقت يومها أنني كفتاة تنقصني الخلايا العصبية اللازمة لتسيير عربة بمحرّك.
بعد نحو عشرين عاماً، أخذت زمام الأمور بيديّ. تجاوزت خوفي من أبي، ومن صوته، ومن السيارات. تعلّمت القيادة ثمّ… لعنتُ الساعة.
في بداية مشاويري من داخل قمرة القيادة، كنت أعتقد أنّني ربما لا أفهم القواعد جيّداً، وأن قلّة خبرتي كسائقة حديثة العهد، تضعني في مواقف محرجة، والأمر يحتاج بعض الصبر.
ثمّ بدأتُ أفهم تدريجياً أن المشكلة ليست إن كنت أعرف قواعد السير وألتزم بها أم لا، على العكس، المشكلة أنني كنت أحاول الالتزام بها: أحفظ يميني، ألتزم بحدّ السرعة القصوى، أؤمّن طريقي يميناً ويساراً، أشغّل أضواء الإشارة، أحفظ أحقيّة المرور. مع الوقت، فهمتُ أن القاعدة الوحيدة التي يمكن أن تنقذكِ على الطريق: "حيدي من درب الرجالة".
في مسرحية "كيف تعلّمتُ القيادة" (1997) للمؤلفة المسرحية الأمريكية باولا فوغل، تسرد الكاتبة قصة مراهقة يتولّى زوج خالتها تعليمها قيادة السيارة، لكنه يستغلّ تلك الدروس ليتحرّش بها. وفي أحد الدروس، يقول الخال: "يتعلّم الرجال القيادة بثقة، وبشيء من العدوانية؛ كأن الطريق وُجد لهم وحدهم. يقودون بتحفّز، يراقبون السائق الآخر باستمرار. أما النساء، فعادةً ما يتسمن باللطف والترددّ، وهذا التردّد بالذات قد يكون قاتلاً".
عثرت على هذا النصّ المسرحيّ بمحض المصادفة على الإنترنت، وكأن الخوارزميات صارت تتنبأ بما في خاطري. كنتُ بدأت ألاحظ أنني أعرف من حركة السيارة أمامي، من دورة عجلتها، إن كان من يقودها رجل أو امرأة، والسبب هو ذلك العُرف السائد عن تردّد النساء، وعدوانية الرجال، وما قد ينتج عنهما من نتائج قاتلة، خصوصاً على طرقات مثل طرقات لبنان.
الطرقات استعارة عنف شاسعة لكي يمارس الذكور هوايتهم المفضّلة بالنهر، والتأنيب، والتجاوز، واحتلال المساحات العامّة، وتصغير النساء. حين تكونين امرأة خلف المقود أنت فعلياً مستباحة بالكامل، لأن الطريق المشرّع يمنح الرجال فرصاً للاستقواء، لم يعودوا يملكونها في أماكن أخرى.
أخرج من بيتي إنسانة ذات قيمة، قويّة، مستقلّة، وأتحوّل على الطريق إلى "حمارة"، "حيوانة"، و"ش**وطة".
يمكن لرجلٍ يقود خلفي أن يطلق الزمور ويصرخ كالمجنون، كي أفسح له الطريق حتى لو كان الثمن دهس أحد المارة.
قد يظهر سائق دراجة نارية عكس السير، يصطدم بسيارتي، ثم يبدأ بالصراخ، لأنني لم أره ولم أفسح له المجال. سيارة أخرى، فيها رجل، ترتطم بي من الخلف، فيلاحقني بين الشوارع، ويحاصرني، لكي يمنعني من المرور، وينزل من سيارته ويخبّط على زجاجي مثل كينغ كونغ. أتجمّد في مقعدي، وأقفل أبواب السيارة والنوافذ، وأنتظره كي ينهي سُعاره، ويذهب. بائع القهوة على الرصيف يصرخ عليّ لكي أتحرّك. من هؤلاء؟ وماذا يريدون مني؟
ذكّرتني القيادة كم أنني حاقدة. أحبّ كلمة "حقد" باللغة العربيّة. أجد فيها انعتاقاً لم يعد مُتحقّقاً إلا في متن اللغة. واللغة، مثل الأجساد والطرقات، ساحة حرب. أكتب كلمة "حاقدة"، كما أؤدي مشهداً مسرحياً بسروال البيجاما، أو أردّ الشتيمة لمن يتجاوزني عنوةً لأن الطريق ملك أبيه.
أحاول أن أفهم سرّ هذا الانزعاج المفرط لدى الرجال من قيادة النساء، وكيف يرتبط هذا الشعور بسلسلة الانتهاكات اليومية المُطبّع معها لمساحاتنا الشخصية كنساء، وحدودنا، وحتى لهويّتنا.
ما نراه في الظاهر تقدّماً على سلّم المساواة والحقوق، ليس إلا واجهة هشّة لمجتمع لم يتحرّر من موروثه الذكوريّ العتيق والمتصلّب. مجتمعٌ ما زال عاجزاً عن التعايش مع حضور النساء في الفضاء العام، خارج "أماكنهنّ الطبيعية" في المنازل، حيث يُفترض بهنّ البقاء بعيدات عن الأنظار، مهما ادّعى غير ذلك.
في مقالة بعنوان "الحريم في كتابات فاطمة المرنيسي"، تكتب رحاب منى شاكر في "موقع الجمهورية" (23 نيسان/أبريل 2021): "للمكان أهميته القصوى في تقسيم العلاقة الاجتماعية بين الجنسين. ومن الطبيعي ألا يكون هذا التقسيم بريئاً من تراتبية السلطة. ويشكّل كل اختراق تقوم به المرأة لحدود المكان تهجماً على السلطة سوف تعاقَب عليه بطريقة ما (...) تتحدَّد هوية النساء بانتمائهن إلى المجال المنزلي، في حين يحمل الرجال جنسية إضافية تنتمي إلى المجال العام".
والمجال العام هنا لا يقتصر على الديني والسياسي فحسب، بل يشمل أيضاً كل تفصيل بسيط في حياتنا، مثل الحقّ في التنقل بحرية وأمان داخل عربة من نقطة ألف إلى نقطة باء، بدون أن ينهركِ ذكرٌ غاضب، يريد أن يشعر بأهميّته.