داخل هذا الحب، أنا لا أخاف
يفيض الحب مني في اللحظات الحاسمة. كلما عدتُ وتذكّرت هشاشتنا، امتلأت حبًا. هذه الهشاشة، لحسن حظي، اكتشفتها في عمر صغير جدًا، فأخذت عهدًا على نفسي بأن أحبّ كل من أحبّهم، بكل الطرق الممكنة، حتى لا أندم إن فقدتهم.
كنت صغيرة حين أحببتُ أحمد. في الفسحة، كان كلٌّ منا يخرج من صفه بعد قرع الجرس، فنلتقي عند المقعد الحجري، حيث نقضي الدقائق العشرين المقبلة ممسكين بأيادي بعضنا. أمسك يده وأراقب البوابة الحديدية الكبيرة.
حتى في ذلك العمر، حين كنتُ طفلة في الرابعة، كنتُ أخشى قدوم والدتي ورؤيتها لي وأنا أمسك بيد صبي. وهكذا، لسنوات طويلة، ترافق الحب في داخلي مع شعور بالقلق في المعدة. تعلّمت أن أحب في الخفاء.
في النهاية، رحل أحمد في حادث سير مؤلم، وكنا حينها قد توقفنا عن حبنا الطفولي البريء، لكنني لا زلت حتى اللحظة أذكر شعره الذهبي اللامع ويده الصغيرة التي كانت مدخلي نحو الحب... والخوف المرافق له.
قبل حوالي سبع سنوات، وفي يوم عيد الحب، قررت يارا أن تلتقط مقاطع فيديو قصيرة لنا، أثناء دوام العمل، نشرح فيها رأينا عن الحب.
لم أعد لمشاهدة الفيديو مرة أخرى، لأن شيئًا بداخلي لم يعد يتعرّف على تلك الفتاة التي كان رأيها أن الحب "مخيف". لا يعني ذلك أنني لا أحب تلك الفتاة، بل أنا ممتنّة لها. لكن تلك النسخة من نفسي لم تكن تعرف ما هو الحب، على عكس يارا، التي كانت تحبّ الحب، وتجد نفسها فيه، فتقول لي بفخر: "لم أعش يومًا واحدًا في حياتي من دون حب"، وتضحك وهي تعبّر عن قدرتها الهائلة على تلقي الحب وإعطائه.
مع التجربة، فهمت أن الحب شعور فطري، لكن كيفية التصرف فيه مهارة مكتسبة. أنا، وكثير من بنات جيلي، لم نشاهد قصص الحب إلا عبر الشاشات. ننظر إلى فاتن حمامة وهي تهيم فوق صور حبيبها، ثم ننظر إلى أمهاتنا وهن يلعنّ الساعة التي تزوجن فيها.
في ذلك الوقت، كان الزواج وحده مرادفًا للحب. المرأة التي تحب خارج إطار الزواج أو التي تخوض علاقة حب طويلة لا تتكلل بالزواج، كانت تُوصم بـ"الجهلانة". كان ذلك الوصم يلاحق النساء، إضافة إلى كلمة "عانس"، فتصبح خيارات القلوب خاضعة للأعراف الاجتماعية.
أعرف الكثير عن تجارب نساء عائلتي، وأعلم أن أكثر من 90 بالمئة منهن تزوجن رجالًا بلا حب، فقط لأنهن خفن من أن يفوتهن قطار الزواج والإنجاب. وحين كبرت، حاولت هذه العائلة التي أحب أن تطبق الأساليب نفسها عليّ. في عاداتنا، ليس ضروريًا أن يكون الحب بابًا للزواج، المهم أن تتزوج المرأة رجلًا يطابق معايير "مناسبة". وهكذا، لا يعود يهم من يكون الرجل أصلًا طالما أنه يحمل هذه الصفات المحددة.
انتهت هذه المرحلة بانتصار مفاهيمي عن الحب على مفاهيم العائلة. ولاحقًا، أدركت أن مفاهيم العائلة عن الزواج والحب، رغم جهلها، كانت بالنسبة إليهم تنبع من مكان محبّ، وأن المشكلة لم تكن فيهم كأفراد، بل في المجتمع وأعرافه ككل. فسلخت نفسي عن ذلك، وبدأت رحلتي الخاصة في البحث عن الحب.
صادفت أنواعًا عديدة من الحب، منها ما كان جميلًا، ومنها ما كسر قلبي، لكني لم أختبر الحب الذي ملأ روحي إلا حين أحببتُ نفسي.
وهنا، لا أقصد بحب النفس التصالح التام مع الذات والراحة النفسية، وهذه العبارات العصرية التي لا تُطبّق في الواقع. ما أقصده هو أنني لم أجد الحب الذي أريده إلا حين بدأت أطالب به، وحين حددت المعايير التي ترضيني كإنسانة أولًا، وكامرأة ثانيًا.
في هذا الحب، لم أضطر إلى لعب دور الأم لرجل كبير، ولم أضطر إلى لعب دور المنقذة. في هذا الحب، توسع أفقي، فلم أعد أحمل عبئًا إلا عبء أحلامي. في هذا الحب، أعلم أنني لست وحدي، وأن التصرف على طبيعتي يكفي. في هذا الحب، أسمع وأُسمع. أعبّر عن جانبي المظلم من دون أن أواجه بنظرات فوقية. والأهم، في هذا الحب، أن المشاكل لا تعني نهاية العلاقة، بل العبور الدائم نحو الأمان والثبات.
أتمنى أحيانًا لو أن نفسي الأصغر كانت تعلم أن الحب يملأه الهدوء، وأن اللحظات العملية فيه تطغى على اللحظات الرومانسية، وأنه حين يحبّنا الآخر، لا يقف شيء في طريقه للوصول إلينا، ويكون جهده واضحًا وملموسًا، فلا تضطر الواحدة منا إلى تفكيك أصغر التصرفات وتحليلها، لأن التصرفات الكبيرة تكون طاغية.
وفي أحيان أخرى، أقول: لا بأس إن لم أكن أعرف كل هذه الأمور سابقًا، لأنني تعلمتها كي أصادف هذا الحب بالتحديد. وداخل هذا الحب، أنا لا أخاف.