حين وقعتُ في حبّ كُليب أخو الزير ونجيب زوج ماجدة

الشارب الكثّ هو أوّل ما يمرّ في بالي ما أن أفتح عينيّ، فأصحو وتصحو معي الذكريات. الوجه الودود، الابتسامة الرحبة، العين المُبالغة في اللطف. لم يحتلّ أي ممثل آخر مكانة أحمد عبد العزيز عند بنات جيلي. اختيار طلعته البهية، واجهةً لحسابات النوستالجيا والميمز على انستغرام، هو بلا جدال، قرارٌ حكيم.

تباينت مواضيع ونصوص مسلسلات التسعينيات وأوائل الألفية. لكنني لم أكن أعوّل على السيناريو في تلك السنّ. عاملٌ واحد يجعل مسلسلًا يملأ أحلامي، وأيامي، وشخابيط زوايا كتب المدرسة: البطل.

يتحوّل الممثل إلى "كراش"، وبالتدريج إلى حبيبٍ مُحتمل، ثم زوج مستقبلي. يخترع عقلي سيناريوهات منطقية تُمكننا من اللقاء، والوقوع في الحب. كأنّ لا المسافات تفصله عني، ولا العمر، ولا الوهم. وكأن الخلط بين الأحداث الحقيقية لحياتنا وأحداث المسلسل، سيجعل القصة الهجينة المستحيلة، مُمكنة.

جميعنا نعلم، أن لا سلوان للبنت الصالحة، المهذبة، "المتربيّة على الأصول"، إلا أحلام اليقظة، والـ"بوي فريند" الخيالي.

لكن من أين يولد الانجذاب في عقل فتاة مراهقة تجاه شخصية خيالية؟ هل الإعجاب بالـ"كراش" الفلاني خُلق مني؟ أم أنني سُيرت إليه؟

نجيب فهمي 99

يؤمن بابا أن في الثراء قليلٌ من العار. هو نصير الطبقة الكادحة، وأثمن ما في بيته مكتبته. بالطبع يقرأ منها، هو وماما، كلّ يوم، كتابًا عشوائيًا، ويكملان لبعضهما أبياتًا من الشعر، ويتبادلان ابتسامة ماكرة.

يطلُّ توأمهما الدرامي نجيب وماجدة من مسلسل "الفصول الأربعة" للمخرج حاتم علي، على الشاشة. ذاك التماثُل بين الحكايتين، طمس عن خيالي قصة حب سوسو لابن خالتها مازن - من المسلسل ذاته - وكانت الأقرب إلى سنّي في ذلك الوقت. هكذا، صار نجيب (الممثل بسام كوسا)، عالم الجغرافيا والفلك، بنظاراته الكبيرة، "كراش" المرحلة.

لعائلتنا جورباروها أيضًا، وقد حرص والديّ على ترسيخ فرادتنا عنهم، أولئك. ليسوا مثلنا. أقلّ اطلاعًا منّا، لا يضعون كتابًا تحت وسادتهم. ماذا يفعلون قبل النوم؟ يعدون الفلوس؟

هذا التعالي الثقافي الفجّ، يصحبه هوسٌ أخلاقيٌ دائم، تتبناه أسر الطبقة المتوسطة التي أنتمي إليها، وتسير به حثيثًا وفق العادات والتقاليد الأبوية. للانقياد هنا ثمرتان: الأولى، امتلاء الأهل بالرضا عن أنفسهم، عن ثروتهم الوحيدة، أبناءهم وبناتهم، من تعمّموا وتهذبوا بالشرف، والمبادئ، والأخلاق الكريمة "وفق الكود الأبوي"؛ فإن خسروا تلك القيم ماذا سيملكون إذًا؟

أما الثانية، فالأمان والحماية، الناتجين للطاعة. فبدون سلطة المال التي ينحني لها المجتمع، تصبح الحريات الفردية، والتعبير عنها، والسير عكس التيار الأبوي، لغير الأثرياء، ضربًا من الفانتازيا.

كان نجيب "الكراش"، لأنني ابتعلتُ تلك الحقائق وتشرّبتها في ذلك الوقت من طفولتي. أردت أن أعيد سردية ماما وبابا، أن أكون امتدادهم الأمين بين الأجيال. علةٌ أخرى أتناساها، بغير وعيٍ مني: أظنني أمُلت فقط في كسب رضا واعتراف بابا وماما، ومصادقتهما على اختياراتي. النجاحُ بدور "البنت الصالحة" تطلّب منّي ذلك.

الحقيقة المخجلة، تفتح الآن في عقلي مرحلة الـ "يالهوي". أتكون حياتي، اختياراتي، وما أنا عليه الآن هو إعادة تدوير لتحقيق ما رغبوه مني؟ لحصري في دور "الفتاة الجيدة"؟

كنساء، تريد لنا عائلتنا، غالبًا، الاتساق مع البنى السلطوية حولنا، كي نجد مكانتنا بسهولة في المنظومة الأبوية. هذه الأخيرة، تثق بالمؤسسة الأسرية الصغيرة، يدها الأمينة التي تكمل مهمتها في المنزل على خير وجه. تدريجيًا، تفقد أكثر الرغبات عمقًا وحميمية - مثل الكراش، وأحلام اليقظة - أصالتها. تتبدّد.

لا فائدة من جلد الذات، أواسي نفسي، تربيتُ في الرياض عاصمة السعودية، خلال تسعينيات القرن الماضي. من الطبيعي أن نشعر برغبة في حب العائلة وقبولها، خاصة في الغُربة. لكنّ ذلك الشعور خفت داخلي في العام التالي. غدت الأمور في عقلي أقل تعقيدًا من صراع الطبقات الاجتماعية، وهموم الأسرة المتوسطة. شعر، وخيل، وذكورة سامة؟ معًا؟ ذاك هو المُنى.

كُلَيْب 2000

تُحيلني الحماسة المرافقة للسهر على إنهاء موسم جديد لمسلسل أحبه، إلى ليالي الشتاء في منزلنا القديم، بينما تطوفه آهات المقدمة الغنائية لمسلسل "الزير سالم"، للمخرج حاتم علي أيضًا. سيناريو متكامل، وممثلون أصحاب كاريزما، ومخرج يعي ما يفعل: حقائق جعلت "الزير" سالم مسلسلًا خالدًا. فورًا، اشترى بابا المسلسل على أسطوانات مدمجة، فحفظته عن ظهر قلب. ظنّ ماما وبابا أنني ورثت منهما حب الشعر في سن  صغير. كانا مبهورين بجيناتهما الرائعة. فاتهما أنني لم أكن مهتمة إلا بظهور كُليب (الممثل رفيق علي أحمد) على الشاشة.

تسريع مشاهد الحلقة بتأنٍّ، لأتوقف عند كليب بعمامته الفاتنة، أثار الشبهات. كانت نتيجة حتمية، فالكمبيوتر الضخم الوحيد في المنزل، شاشته أكبر من رأسي، ينتصب شامخاً في صدر الصالون. مع الكرسي الصغير أمامه، ظهري، والشاشة للعراء، كنت مكشوفة تمامًا لبقية الغرفة.

أعلم الآن أن قصة الحب بين الجليلة وكُليب لم تكن حبًا أصيلًا، فالذكورة السامة تطفح من الشاشة، يرافقها أوهام الشرف، وأبناء العمومة، والكبرياء المرضي – الذي يعلمنا المجتمع الأبوي مبكرًا، أنه صفة مهمة في حبيب العمر وإن غمرت تبعاته القاسية الحبيبة أيضًا.

نجاة "البنت الصالحة" من التوق إلى نظرة الفخر في عيون الأهل، لا تعني إفلاتها من تأهيل سلطة المجتمع. نتناول خبزة الطاعة مبكرًا، نُتبعها بخمر السعي لقبول الوالدين، ونرتجل أدوات تبقينا أسيرات للمنظومة. من بينها، الإعجاب برجال قساة، يضمنون للنظام الأبوي الديمومة، حتى في القصص المتخيلة. كان كُلَيْب حينها كراشًا مثاليًا.

هل إعجابي حقيقي؟ أم اخترته بلا وعي مني، علم عقلي الباطن أن إعجابي بكُلَيْب سبيل آمن في محيطي، سيهديني رضا بابا وماما عن اختياراتي، وبالتبعية امتيازات أكثر ومساحات حرية أكبر؟

لا مجال لـ"الصياعة". هكذا فكر والداي بالتأكيد. فإن كان كليب هو الكراش، إذًا، لا حبيب ولا مواعيد غرامية. فمن حولنا توقّف به الزمن، ويشبه كليبًا؟ مُنحت ثقة كبيرة لم يكن ليمنحني إياها الإعجاب بريكي مارتن. وبكلّ أسف، كانا على حقّ. تساميتُ كفتاة جيدة لا عن الكراشات من حولي فقط، بل استنكرت هبل زميلاتي المجنونات، اللواتي يحلمن بـالتيتانيك وليوناردو دي كابريو.

من حين لآخر أفكر بماضيّ المتخيل مع كُلَيْب، بمكيدة إنقاذ حبيبته الجليلة، وقتل خاطبها التبع اليماني، بالشعر، بالفروسية. ثم ألوم نفسي والنوستالجيا، وأحتقره كُرمى لأجداد كلبتي توتو. لقبوه كليبًا، لأنه إذا سار أخذ معه جروًا يضربه ويلقيه في الروضة التي تعجبه. من يسمع عواء الجرو المتألم، يتجنّب المكان. كان الكراش وغدًا.

أحمد عبد العزيز 2001

عنوةً، ينزع من رأسها دبوسًا للشعر. يقربه من ساعده، يجرحه. هي تصرخ، هو يتألم، تسيل دماءه. "ده اللي أملكه يا نجاة معنديش غيره"، يقول. ثم يكتب بدمه، بالدبوس عينه، على منديل، "بحبك".

ما هذا الصدق؟ ما هذه المشاعر الجياشة؟ أي درجة من العشق تجعله يجرح نفسه لإثبات حبه؟

لا تقلقن. تلاشت مشاعر المراهقة. الآن عرفت طريق العلاج النفسي، أعلم أن ذلك المشهد، هو "علم أحمر" يغطي حجمه سقف الغرفة. لكن لا يمكن تجريد إعجابي ببطل المشهد أحمد عبد العزيز، عن "أفورته" (مبالغته)، كما نقول في مصر. هذا الإعجاب، لا يد واضحة لماما وبابا فيه. لكن أيادي السُلطة الأبوية هنا ممدودة، لم ترحل.

أودّ التنويه إلى أنّي أستحق تحية على شجاعتي، لاعترافي بهذا الكراش على وجه الخصوص.

قد يكون شاربه الآن مريبًا، للبعض. وقد يظنّه آخرون شخصًا مبالغًا فيه. وتلك الحقيقة، هي ما جعلته فريدًا. كان إسرافه في التعبيرات والتنهيدات ونبرة الصوت، متناسبًا مع مُغالاة المشاعر وفوران الهرمونات خلال مراهقتي خارج الوطن.

لفترة طويلة، ظننت أن المشاعر، لكي تكون صادقة، ينبغي أن تملأنا. إن كنتُ سعيدة، يتوجب علي بلوغ منتهى "الانشكاح"، ويسمع قهقهتي أهل الإسكندرية. يتقاطع هذا الشعور، مع مفهوم "البنت الصالحة" التي ينبغي عليها أن تمنح الآخرين حقّهم وزيادة من المشاعر. وإن أنهكتها طاقة الإفراط في الواجب، حتى وإن اتّهمت أن أحاسيسها مزيفة، أو مبتذلة، لا تشبهها. لهذا، أعتقد أنني انجذبت بسهولة إلى عبد العزيز.

متى تغيرت؟ أظن خلال دراستي الجامعية. لا لأجل الجامعة على وجه الخصوص، لكن لأنني اختبرت الحداد. موت الأحبة يُغيّر المعادلة. بت أعلم أن السعادة في السكينة، والاتزان. قد يعيش في نفسي عددٌ من الانفعالات بدرجات متفاوتة في وقت واحد. أحيانًا أنتحب داخلي ألمًا للفراق، حينها قد يتسلم الحزن القيادة، فأتمدّد في سريري واهنة. وأحيانًا أخرى، أعيش يومًا عاديًا، ربما سعيدًا، لكن بكاء الحداد رتيبًا من أقصى زاوية في قلبي، لم يتوقف بعد.

كما تندرج شخوص عبد العزيز، ضمن الرجال الطيبين، الجيدين، فرسان العدالة، وفق أسس النظام الأبوي. يتواطأ ذهن "البنت الصالحة" مع هذا النظام عبر الاقتراب من مثيلها، فهما ثنائي ممتاز يليقان ببعضهما، ثنائي يضمن استمرار المنظومة: تمسيد الذكورة القلقة، الانصياع لموازين القوى في العلاقات الغيرية، التغاضي عن العنف المضمر للسُلطات على أنواعها.

أجرّب النبش حقًا في ما يعجبني. ربما يمكنني كسر صنم السلطة في عقلي بالفهم. أحلّل إعجابي في الماضي بدلًا من إغفاله، فيفتح لي دهليزًا للفرار من الدوامة المظلمة. أستنتج، أن عائلتنا تسكننا ما حيينا، وهي حقيقةٌ حزينة ومؤنسة في آن.

يهمس في أذني الصوت فتاة جيدة؟ مؤدبة؟ أتجاهله، لأتفرّس في شعيرات بيضاء تغزو رأسي، لم أعد المراهقة ذاتها، فأطمئن. يرتخي جسدي على الأريكة. التأمل يريحني. رويدًا أخرج من حيز غرفتي، بالقرب مني فرسان متأهبون بسيوف مصقولة، يختبئون في صناديق ضخمة متناثرة، والنباح يملأ الهواء حولي. يقف أمامي رجلٌ يرتدي تاجًا، أعرف أنه سيموت قريبًا.

مدونتنا