حين تقول أمي إنّ "عقلاتي شغل إيدي"
أتصل بأمي متحمسة لأخبرها عن مشروع جديد عرض عليّ أن أعمل ضمن فريقه. أوضح لها أن العمل على هذا المشروع لا يعني أني أصبحت "موظفة" لدى الجهة التي سأعمل معها، بل إنني ما زلت أمارس العمل الحر، وفور انتهاء المشروع سأباشر مشروعاً آخر مع جهة أخرى، أو ربما أنتظر حتى يُعرض عليّ مشروع جديد يوقظ في داخلي الحماس والاندفاع.
بطبيعة الحال، تفرح أمي لفرحي، لكنّها لا تمنع نفسها من أن تجود بمعزوفتها المعتادة التي دوماً ما تُفتتح بجملتها الشهيرة: "إنتِ ما بتشكي من شي، بس لو ما عقلاتك شغل إيدك".
هكذا، وفي ذروة حماسي، قررت أمي توجيه أصابع الاتهام إلى عقلي، فقط لأنّها لم تتقبّل فكرة أنّي تخلّيت عن وظيفتي الثابتة منذ بضعة أشهر. وظيفة كانت توفّر لي معاشاً ثابتاً، وتأميناً صحياً، وضماناً اجتماعياً.
قضت أمي عمرها جزءاً من المنظومة التي تسيطر على العالم وتصنع منّا روبوتاتٍ تذهب صباحاً إلى وظائفها، تستثمر كلّ طاقتها في العمل، ثم تعود ليلاً إلى منزلها منهكةً، فارغةَ الشحن. لم تستطع أن تفهم كيف تتخلّى ابنتها عن وظيفة توفّر لها تأميناً صحياً، فقط لأنّها ترى أنّ بيئة العمل التي تنتمي إليها لا تقدّرها ولا تقدّر جهودها.
من وجهة نظري، ما فائدة المعاش الثابت إن لم أكن سعيدة في عملي؟ وما فائدة التأمين الصحّي إن كنت سأضطر إلى استعماله يومياً بسبب بيئة عمل تستنزفني؟ قد لا أحتاج إلى استعماله أبداً إن كنت محاطة ببيئة سليمة، لا قلق فيها ولا تعاسة ولا تشكيك. فضّلتُ راحتي، واخترتُ العيش على مهلٍ، عوضاً عن وظيفة تستنزف طاقتي، ولا تقدّر مجهودي، وتُشككني بقيمة نفسي.
من وجهة نظر أمي، فهي تعتبر أنّ "عقلاتي شغل إيدي" (أي أنّ عقلي من صنع يديّ، وأن لديّ أفكاري الخاصة ولا أكترث للمعتقدات السائدة). وبرأيها، من يحصل على وظيفة عليه أن يتحمّل طبيعة الأشخاص الذين سيعمل معهم، حتى لو كانوا سامّين، ويضحّي في سبيل التأمين الصحّي والمعاش الثابت.
"إنت ما بتشكي من شي، بس لو ما عقلاتك شغل إيدك"... هذه المرة لم تثر الإشارة إلى عقلي استفزازي، فقد اعتدت عليها. ضحكت وحاولت أن أنتقل للحديث في موضوع آخر مع أمي، ثم أقفلنا الخط. فهذه ليست المرة الأولى التي توجه فيها أصابع الاتهام إلى عقلي، بل عادة قديمة جداً أسمعها منذ أن أصبح لساني قادراً على إبداء آرائي.
خارجة عن الطبيعة
"عقلاتك شغل إيدك"... عبارة ترافقني منذ الصغر.
في سنوات طفولتي المتأخرة، لم أكن أكترث لما كان يتوقّعه المحيطون بي. كنت أنا: أقول ما يحلو لي، أرفض ما يفرضه عليّ الكبار، وأمتنع عن مسايرة من أشعر أنه لا يروق لي... كنت تلك الطفلة التي لا تخاف من قول "لا". ومنذ ذلك الحين بدأت أمي تردّد عبارتها: "هالبنت، عقلاتها حيطلعوا شغل إيدها."
أظن أنّها تأكّدت من نبوءتها حين أصبحت في سن المراهقة. كنت أحياناً أشارك أمي وصديقاتها جلساتهن الصباحية، حيث كنّ يستجوبنني عن آرائي في أمور عدّة، كالزواج مثلاً. وكنت، بكل صراحة، أوضح أن الزواج لن يكون ضمن أولوياتي في المستقبل، وأن هناك أموراً أخرى أطمح إلى تحقيقها قبل كل شيء.
كانت صديقات أمي ينظرن إليّ باستغراب، وكأنهن استمعن إلى مراهقة خارجة عن المألوف. يسارعن بالقول: "ما تحكي هيك قدّام حدا!"، فيما تبتسم أمي بحسرة وتؤكّد لهن: "هالبنت عقلاتها شغل إيدها."
هكذا، رافقتني تلك العبارة منذ الصغر. وفي الحقيقة، كانت تغيظني جدّاً. كنت أشعر ألا أحد يفهمني، وكنت أشكّك في طبيعة نفسي، ومسَلّماتها، وتفضيلاتها. لم أستطع تغيير نفسي، ولم أحاول حتى. لم أفكّر يوماً أن أقول ما لا أؤمن به، أو أن أفعل ما لا أرغب بفعله. لكن صدقاً، تلك العبارة جعلتني أشعر أنّي "خارجة عن الطبيعة".
كبرتُ، وبقيت كما أنا، وبقي عقلي "من صنع يديّ". بل إنّ أمي ترى أنّ حال عقلي قد ازداد سوءاً. لم أعد أزور الأقرباء الذين لا يعني لي وجودهم شيئاً، ولم أعد أجبر نفسي على أداء الواجبات الاجتماعيّة المغموسة بالتملّق والادعاء. أغلقت الباب في وجه رجال اعتبرَتهم أمي "لقطة"، ولم أعد أخشى التخلّي عن أشخاص أو أماكن لا توفّر لي الراحة والأمان لأكون نفسي.
والأهم من ذلك كلّه أنّ نظرات صديقات أمي نحوي، وعبارتها الشهيرة، لم تعودا تزعجانني، بل صرتُ أحياناً أشعر بالعكس تماماً.
راحتي وما يتوقّعه مني الآخرون
وُلدت أمي وكبرت في مجتمع رسم لها مستقبلها في القالب نفسه الذي رسم مستقبل غالبية النساء الأخريات. سارت في خريطة حياتها دون أن يثير فضولها ما خُبّئ عنها من طرقات. كانت الابنة المطيعة، والزوجة، والأم الصالحة، المضحية التي تتخلّى عن راحتها من أجل راحة الآخرين. التزمت بجميع واجباتها الاجتماعية، فلم يجد أحد فرصة لتوجيه إصبعه نحوها.
عملت في الخياطة من الفجر إلى السَّحَر، حتى أنهكت نفسها. خافت أن يمرّ يوم لا تُحضّر فيه ألذّ طبخة منزلية. تخلّت عن ذاتها، ونسيت أن تُصغي إلى الصوت في داخلها، فقط لتكون بين مَن تحب بالصورة التي أرادوها أن تكون عليها. حاولت إسعاد الجميع: من أمها وأبيها وإخوتها، إلى زوجها وأهل زوجها، وأختي وإخوتي وأنا، وصولاً حتى إلى أحفادها.
بالطبع، أشعر بالامتنان لكل ما قدّمته أمي، وأفتخر بقوّتها وقدرتها على التحمّل. لكنّي أتمنّى لو أنّها، ولو ليوم واحد، اختارت أن تنسى كل من حولها، وتمددت على الكنبة، وغطّت وجهها بقناع بشرة من شرائح الخيار، واستسلمت لأغنيتها المفضلة ("من غير ليه" لمحمد عبد الوهاب). أتمنّى لو أنّها فضّلت نفسها، ولو لساعة واحدة من عمرها، من دون أن يثقلها الشعور بالذنب.
صديقات أمي مثلها أيضاً. سرن وفق الخريطة التي رُسمت لهن: تزوّجن حين قال لهن المجتمع إن وقت الزواج قد حان، وأنجبن في الموعد المحدّد، وبعضهن حظين بوظيفة منحتْهن تأميناً صحياً، فالتزمن بمكاتبهن يومياً من الصباح إلى المساء، حتى حان وقت التقاعد.
وها أنا اليوم، أجلس إلى جانب أمي وصديقاتها، فتاة تُعدّ خارجة عن الطبيعة: تتخلّى عن وظيفتها بلا خوف، وتركض وراء ما يسعدها. فتاة لا تزال غير مبالية بالزواج، تستيقظ كل يوم ساعية وراء مشاريع قد لا تمنحها الكثير من المال، لكنها تمنحها فرصة أن تفعل ما تحب. فتاة لا تبتسم إن فضّلت عقد حاجبيها، ولا تقول ما ينتظر الآخرون سماعه.
فليكن!
كبرت، وما عدت ألوم أمي أو أنزعج من اتهاماتها الموجّهة إلى عقلي ويديّ. بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها، يصعب عليها أن تصدّق أنّ بوسعي أن أختار طرقاً لم يرسمها المجتمع لمصيري، وأكون سعيدة في الوقت نفسه.
لا أحب أن أرسم لنفسي صورة "المتمرّدة"، فهذه ليست غايتي. غايتي، وبكل بساطة، أن أعيش الحياة كما أحب، وعلى مقاسي أنا. وإن كانت عاقبة هذه الغاية أن يُقال عني: "عقلاتها شغل إيدها"... فليكن!