تاريخُ انتهاء الصلاحية: للنساء وعلب الحمص فقط!
تعاون الطبيب مع مساعِدته على تفحّص جسدي، ورقبتي، وبطني، وظهري. كنت أتعافى من جراحة إزالة الغدة الدرقية. مرّ 17 عاماً على ذلك، ولكن لا تزال علامة الجرح في رقبتي إلى اليوم. تعلّمتُ أن أقبلها، أعتقد أنها تشبه العقد.
شخصان بثوبين أبيضين، تبادلا من فوقي النظرات القلقة. قالت لي السيدة إن العلامة لن تزول، و"حرام بعدك صبيّة". هزّ الحكيم رأسه وقال مُطمئنًا: "المهم ألا يترهّل جسمك". تفحّص بطني الكبير، وذراعاي العريضان، ورقبتي المجروحة، وألقى نظرة على صدري، وقال "بعدك منيحة، في وقت".
أقولُ الجملة ذاتها حين أتفحّص علبة الحمّص الصامدة في خلفيّة خزانة المطبخ. أقرأ تاريخ الإصدار، وتاريخ انتهاء الصلاحية: "بعدها منيحة، في وقت".
منذ صغري، كنت معتادة على نظرة عدم الرضا في العيون حين ترتطم بجسدي الكبير. لكن يومها، في تلك العيادة، في الحادية والعشرين من عمري، نزل عليّ النبأ كالصاعقة، وانتبهتُ للمرة الأولى إلى حقيقة سترافقني لسنوات: "لدى جسمي تاريخ صلاحيّة، ولن أكون صبيّة، إلى الأبد".
أعتقد أن كلّ واحدة منا تعيش لحظة إدراك مماثلة، وإن اختلفت المواقف والاستعارات: كأن جسم المرأة علبة حمّص ستنتهي صلاحيتها يومًا ما، فلا تعود صالحةً للاستخدام، وعليها أن تجد حلاً سريعاً لتكون "مفيدة".
ماذا يعني "مفيدة" يا ترى؟ أن تكون مرغوبة ومثيرة بنظر الرجال؟ أن تكون قادرة على الإنجاب؟ أن تتزوّج وتصير مسؤولة عن عائلة؟ أن تكون قادرة على الإنتاج وتقديم الرعاية؟
الرغبة بالشباب الدائم، والخوف من الشيخوخة والعمر والكبر والمرض، حالة إنسانية جامعة؛ قدرُنا الذي لا فكاك منه. علينا أن نواجه الزمن، ومرور خطواته الثقيلة على أجسادنا، طالما خلقنا بشراً فانين. ولكن، تقع علينا نحن كنساء، مسؤولية إضافية: ألا نجفّ، ولا نكرمش، ولا نخبو، ولا نفقد نضارتنا.
يعيش كلّ مخلوق في الطبيعة، مراحل الحياة بكامل تقلباتها بدون أي خوف أو ملامة، إلا أنثى الإنسان، عليها أن تتفادى ذلك الشتاء القادم، بأي ثمن. لا "يحقّ" لها أن تتقدّم في السنّ، وإلا ستصير "غير صالحة للاستخدام". تماماً كعلبة حمّص منتهية الصلاحية. بقدر ما أجد هذه الاستعارة مهينة، بقدر ما أعرف من تجاربي وتجارب من حولي أنها للأسف واقعية.
نشعر كنساء غالباً أننا في سباق ما مع قوى الزمن الخارقة، قبل أن نفقد "قيمتنا" المرتبطة حصراً بالجمال والصبا والخصوبة. الحلول مكلفة، تستهلك أعصابنا، وصحتنا، وأموالنا: إبر، مستحضرات، وقلق دائم... كلّ ذلك لمحاولة تأخير المحتّم.
كثيراً ما تشغلني هذه المعضلة، ومدى استيلائها على عقولنا، وضريبتها النفسية الباهظة. مفهوم القيمة المرتبط بالشباب، يلغي كلّ إنجازاتك، ويختصر كيانك بأرقام، أو بأوهام عن الدور المعدّ سلفاً لكِ "كأنثى" في مجتمع بطريركي.
مرة كنت في مكتبي في الجريدة، أبحث عن صور أرشيفية للفنانة صباح. وقعت على صورة لها في ثمانينيات القرن الماضي، وهي ترتدي ملابس براقة بألوان زاهية، وتبدو كأنها ذاهبة لحفلة راقصة. أقراط كبيرة، حمرة فاقعة، أساور من كل الأحجام، وشعر أشقر. كانت ربما في الستين. مر زميل خمسيني قرب مكتبي، ولمح الصورة. لم أطلب رأيه، ولكنه عاجلني بالقول: "أوف صباح، كيف صار شكلها لما كبرت!".
رغبتُ في لحظتها لو أني رفعت شاشة الكومبيوتر، وضربته بها. يا لهذا الاستحقاق. أنت أيضاً تتقدّم في السن، لماذا "تقبل الأمر على نفسك" وتراه عادياً، ولكن تعيبه على أيقونة فنية؟ لأنها امرأة؟
تشغلني سهولة الحديث عن أعمار النساء كأنها عيب. أتفرّج على صور هيفا وهبي المنشورة على إنستغرام، وأتابع أحياناً تعليقات "تلومها" على ظهور التجاعيد في وجهها، و"فقدانها لجمالها الأسطوري".
لا أعتقد أن أيّ شيء سيُفقد هيفا جمالها، ولكني أفكّر لماذا لا أقرأ تعليقات مماثلة على صفحات فنانين تقدموا بالسنّ، ولجأوا إلى تدخلات تجميلية، من عمرو دياب، إلى راغب علامة، ووائل كفوري... لماذا يحقّ للمشاهير الرجال أن يكبروا في السن، ولا يحقّ للمشاهير النساء ذلك؟
تقول الممثلة الأمريكية الراحلة بطلة "ستار وورز" كاري فيشر (1956-2016) إن "الرجال لا يكبرون بالعمر بطريقة أفضل من النساء، كل ما في الأمر أنه من المسموح لهم أن يكبروا بالعمر".
أشعر أن تجاربنا كنساء مرتبطة بكمية من الذنوب غير المبررة وغير المفهومة، وكأن علينا أن نشرح ذواتنا طيلة الوقت. ليس علينا تبرير خياراتنا فحسب، وتقديم شهادات حسن سلوك عن كلّ شاردة وواردة، بل علينا أن نعتذر أيضاً وقبل كلّ شيء عن أعمارنا.
في إحدى حلقات مسلسل "الفصول الأربعة" لحاتم علي، تصاب فاتن (سلمى المصري) بنوبة قلق، لأن التجاعيد بدأ ترتسم على وجهها، رغم عنايتها الشديدة ببشرتها. تعيش هذه الأم لشاب وفتاة في العشرينات، أزمة وجودية، حاول المسلسل أن يختصر فيها أزمات نساء كثيرات من جيلها: خوفهن من أن يخسرن الرجل في حيواتهنّ، أن يُستبدلن بامرأة أصغر. أعودُ إلى علبة الحمص، إن انتهت صلاحيتها، نرميها، ونشتري واحدة جديدة، بهذه البساطة!
ويمكن لأنماط الاستهلاك الرأسمالية، ولتأثير مواقع التواصل الاجتماعي، أن تخلق عندنا مخاوف أكبر بكثير من مجرد القلق من ظهور تجاعيد في جبيننا، كأن "الكمال" واجب، بمقاييس خرافية، للون الشعر، وشكل الحاجبين، ومساحة الخصر والفخذ، وشكل الذقن...
يعطي المجتمع نفسه الحق بتعريف ما يعني أن نكون "صالحات" و"مفيدات". قد يتطلب الأمر شجاعة كبيرة لنتحدى تلك الصور المنزلة، ونعيد صياغة مفهوم الجمال والصبا، ونولي الأهمية لحقنا في حياة سلسلة وللبحث عن قيمتنا في التجارب والنضج والتصالح مع الذات.
قد نحتاج إلى شجاعة لنذكِّر أنفسنا بأننا لسنا محدودات بتواريخ وبساعات وبأرقام على الميزان. نحن أكثر من ذلك بكثير. نحن حكايات مُعاشة، وخبرات مكدسة، ونضالات يومية لنكون أنفسنا في كلّ مراحلها وفصولها.