السروال الأسود الكبير
أكاد لا أذكر نفسي في مرحلة الطفولة، الاّ تلك الطفلة المدلّلة التي يلاطفها كثيرون بابتياع الحلويات والأطايب ارضاءً لها. جدّي حين كان يدلّلني وقت الغذاء خاصة، كان يشترط عليّ أن أكمل صحني لأنّ خزان الوقود أي معدتي لم يمتلىء بعد. وأكاد من فرط حبي لجديّ أمسح الصحن بأصابعي. فتاة شرهة كنت، ربّما، لكن بالتأكيد شراهتي ان أردتم تسميتها كذلك كانت واضحة في أردافي في مرحلة لاحقة، واضحة بشكل ملفت.
Wintertime
كان اليوم عاصفاً، كنّا نخطّط لزيارة السوق، وما أدراكم ما هي زيارة السوق بالنسبة لي. انّه يوم التعليقات التي لا تنتهي والشفقة التي تنتهي بالحديث بين البائع/ة أو احدى الزبائن مع والدتي حول وضعي الصحي بصوت يخترق ليس فقط الآذان بل القلب، أقصى جوفٍ فيه.
رحلتي في السيارة كانت أحاديث بين الألوان العديدة التي عليّ اختيارها: “ماما، هلّق منقيلك يا أسود، يا كحلي، يا بنّي.. الألوان التانية بتبينلك ال”ديفو” (العيوب) فأهزّ برأسي وكأنّ لي خيار آخر.
نصل إلى سوق الحمرا، ذاك السوق الشهيّ بألوانه وبالتصاميم المعلّقة على واجهات المحلاّت التجارية وبالناس وأكياس التسوق التي تصبح لكثرتها كأنّها بالونات تنتظر من يلتقطها
Fitting room
كان لا بدّ لنا المرور على بضعة محال، تلك المحال التي يقصدها الجميع (بالعاميّة: الجميع المقصود فيها، المحلات اللي يذهب إليها الناس الطبيعيين، الطبيعيين: أصحاب الأوزان المقبولة إجتماعيّا) وفي كلّ مرّة ندخل فيها، تلاحقني النظرات من الباب الى أقسام الثياب المختلفة وكأنّي أحمل جرثومة أو مرضاً معدياً.. فأختبىء خلف أمّي، أشدّ قميصي الطويل محاولة منّي إخفاء أكبر قدر من اللحم الزائد، ذاك الذي لا أتذكّره الاّ لدى محاولة شراء الثياب.
تتجّه البائعة الى أمّي بكلّ ثقة وتسألها: ” عفوا مدام” وهي تعرّيني كمن يحاول تكهّن عمري من خلال حجمي.
- - عم تفتشي ع تياب الك او الها؟
تجيب أمّي بمنتهى الهدوء: “عم فتّش ع بنطلون لبنتي”
- - بنتك!؟ ما معقول!! مبينة إختك مش بنتك، اسم الله من وزنها يمكن!؟ قديه عمرها؟
وبرغم كلّ وزني الزائد وحجمي الكبير بالنسبة للبائعة، لا تراني، ظلٌّ أنا لا وجود لي وتعيد أمّي توجيه السؤال:
“هل أجد بنطالا داكن اللون لديكم؟
فتردّ بسرعة: لا مدام ما عنّا قياسات كبيرة، بدّك تشوفيلها بالمحلاّت اللي بتبيع اشيا خاصة بالناصحين.
إذا أنا أنتمي الى جماعة، جماعة لها مسمّيات مختلفة “ناصحين، أصحاب الوزن الزائد، بدينين…” جماعة لم أكن أعلم بوجودها الاّ في غرف القياس، حين أطلب قياساً آخر ويكون الردّ بحزن “هيدا أكبر رقم عنّا"
Advice and much much more
كنت دائماً أبتسم حين أجد من يسبقني وزناً، من يزيدني حجماً، فهنا مأساتي قد تختفي لتصبح مأساة آخرين ملهاة حديث لكلّ من يطيب له التعليق. الابتسامة التي ترتسم للحظات على وجهي، قد تختفي ايضا بعد بضع لحظات حين يتجاهلك من هم في المتجر وكأنّك نكرة أو حين يتهامسون عليك وكأنّ “النصاحة” قد تصيبك بالصمّ وكم من مرّة خطر ببالي أن أصرخ وأقول:
“ايه أنا ناصحة، بس بسمع يعني وكتير منيح وبشوف وكتير منيح كمان خاصة لمّا ما بتكونوا عم تعملوا جهد تخبّوا حركاتكم/ن انتو وعم تدلّوا عليّي، ناصحة فهمنا بس فيّي البس، مش آخدة الأكل من درب حدا منكم ولا مأثرة نصاحتي على حياتكم/ن ولا آذيتكم/ن بشي… نصاحتي الي، اذا ما أذتني جسديّاً فعم تئذيني منكم/ن بأشواط أشواط”
لكن أصمت، أحاول ألاّ أري دمعتي لأمّي، فهي تعبت كثيراً معي في هذه المرحلة، يكفيها ما كانت تسمعه ممّن يحيطها من الجيران والأقارب
Big Black Pants
بعد يومٍ شاقٍ من البحث والملل والتعب والعرق الذي يجتاحك بعد تغيير ما يزيد عن 30 قطعة غير ملائمة، ها هو البنطال الاسود الكبير يطلّ عليّ، ذاك البنطال الكلاسيكي الذي أكاد أجزم أنّ جدّتي توقفت عن ارتدائه منذ الستينيّات من القرن الماضي.
أعود به الى المنزل، خائرة القوى، خائبة، لما عليّ أن أرتدي كالكبار وأنا ما زلت صغيرة. لما عليّ أن أشعر بالألم في وقتٍ يعتبره كثيرون متعتهم اليومية أو الأسبوعيّة أو الشهريّة؟؟ أسئلة كثيرة تدور لدى وصولي البيت، دموع أكثر تنهمر حين أرتدي بنطالي الاسود مرّة أخرى لأراه ان كان يتلاءم مع كنزتي او قميصي، أستعرضهم مرّة أخيرة على والدتي وهنا أجد الجارة مع فنجان قهوتها وتختم نهاري الحزين بجملة لم أنساها يوما:
ضيعانها يا الهام(الهام هي أمّي) وجّها حلو، حلوة اسم الله عليها، ليه هاملة حالها، ليه هالقد نصحانة، ما عم تعمل ريجيم!؟”
تهزّ أمّي رأسها ليس اقتناعا بل محاولة منها إقفال الموضوع بأقلّ الأضرار… لتعود الجارة لجملتها الشهيرة:
الهام، انتبهي عليها، ضيعانها معلّمة وحلوة بس الناصحة ما بتلاقي عرسان!!
في جملة واحدة اختصرتني جارتي، “الناصحة ما بتلاقي عرسان” واختصرني مجتمع بأكمله.. أنا ذاك المرض الذي يختبىء منه الجميع، مرض يجتمع بأردافي الكبيرة وببنطالي الأسود الكبير الذي إن حاول أن يغطّي شيئاً، يغطّي لحماً لم يفسده الاّ تشوّهات المجتمع.