"الدنيا إيه غير كم جدع بمسّي عليه؟"

في كل مرة يسألني أحدهم عن نشأتي، أخبره أني تربيت على يد والدين صارمين. يحاول الجميع حينها التأكيد أننا في الهوى سوا، فمفهوم الصرامة حمّال أوجه بلا شك. لكنني وجدت طوال سنوات طفولتي ومراهقتي، أن تلك الصرامة والقسوة من وجهة نظري، ونقطة الخلاف التي استمرت معي كردة فعل أحاول بقية حياتي إثبات خطأهم فيها، كانت في إصرارهم على عزلنا أنا وإخوتي عن الحياة الاجتماعية والعلاقات العميقة مع الأقران. كره أهلي كل واحدة من صديقاتنا، حاولوا إيجاد العيوب والعثرات فيهنَّ، بل ولمننا على عيوب الأشخاص المقربين منا من خارج نطاق العائلة. حين أفكر بالأمر الآن، أجد أنهما كوالدين، وجدا في مفهوم الأصدقاء تهديدًا لكل ما يحاولون بناءه من أسس عائلية منضبطة. تملكهما الخوف دومًا من كل من يمكن أن يدخل بيتنا، وأرعبهما أن نخرج نحن إلى العالم الخارجي. 

 

حاول أبي دومًا أن يربط لنا الصداقات بخيبة الأمل، فيما أرادت أمي إقناعنا أن بوسعها هي أن تكون صديقتنا المقربة، وحين لا يفلح ذلك فعلينا نحن كأخوات أن نكون صديقات ونكتفي ببعضنا، وأننا بذلك لن نحتاج لتفاعلات خارج نطاق العائلة. لكنني كنت أشعر في الماضي ما أنا متأكدة منه الآن، أنه ليس بوسع الأهل أن يحلّوا محل الأصدقاء، وليس على الأصدقاء أن يصبحوا بمقام العائلة، وأن فهم الحدود والحاجة للموازنة بين الطرفين، هو السبيل الوحيد لعلاقات صحية. 

 

لكن كل هذا الحذر والتوجس من الآخرين لم يؤدِّ في حالتي سوى إلى محاولات التمرّد المتواصل على هذه الأفكار. أصبحت أمتهن مع مرور الوقت حسن الظن بالحياة وبالآخرين، وأوصلني ذلك لأكثر مما أملتُ به من عمق في الروابط البشرية، لأجد أنه ما من شيء أنبل من مشاعر الغرباء حين يقررون أن يخطوا خطوة باتجاه الألفة، ليعرفوك بشكل أفضل، وأن يبذلوا بعد أن يعرفوك الجهد ليفهموك أولًا، ثم يتفهمونك. فالصداقة كما بدت لي كانت إيمان الإنسان بالإنسان، والسعي المتواصل لفهم الآخر والتعاطف معه والتماهي مع رحلته.

يقولون في اللغة الشعبية المحكية في عدة دول من المنطقة في وصف شخص ما: "ماله صاحب"، كدلالة أخيرة على الحالة الميؤوس منها للشخص المذكور، فلا بدَّ أن خللًا ما يعترضه حتى انصرف الأصدقاء من حوله. وبالأسلوب نفسه بتُّ أشعر أن الـ "ريد فلاغ" الأساسي والأكبر بخصوص أي شخص في أي مرحلة عمرية، هو عدم امتلاكه لصديق مقرب تجمعه به رابطة عميقة لسنوات طويلة. 

 

لكن ورغم الراية الحمراء الكبيرة التي أراها ترفرف فوق رأس كل فتاة تنأى بنفسها عن الصديقات المقربات المحتملات، أجد نفسي أشعر بالتعاطف معهن عوض الحذر منهن. أفكر بعدد المرات التي خرجت فيها من مساحة أو موقف أو مرحلة لأجد نفسي تلقائيًا على الطرف الآخر من مكالمة هاتفية مع صديقة مقربة تساعدني على ترتيب أفكاري ومشاعري، فتنقذني من الغرق. أفكر بالساعات والأيام من حياتي التي قضيتها أحوم حول صديقتي وأتبعها في أرجاء المنزل، مشاركةً معها أصغر التفاصيل وأتفه الأفكار في مكاشفات مفتوحة متواصلة أصلحت علاقتي مع نفسي وأسمعتني صوت أفكاري. 

أفكر يوميًا بصديقاتي الأكبر سنًا اللواتي يعدّونني دومًا لتجارب لم أختبرها ومراحل لم أصلها، أفكر بصديقاتي الأصغر سنًا اللواتي يحرصن أن أبقى بمساعدتهن "كول". أستذكر كل النساء الجدعات اللواتي أغنين تجربتي بتجاربهن الشخصية، وحرصن ألا أتخلف عنهن، محاصرةً بأي لحظة شك، وشاركن معي بكل كرم عواطفهن وأفكارهن ورحلتهنّ. لا أعلم فعلًا إن كان للمرأة أي فرصة للنمو والتطور دون صديقاتها. الصديقات كنَّ بالنسبة لي محور ومركز امتناني حين لم يكن لدي أي شيء آخر أمتن له، بل وبقين كذلك حتى بعد أن فتح الكون ذراعيه لي.

يصعب عليَّ بعد كل هذا تخيل حياة لا تحظى فيها المرأة بمجموعة دعم من حولها ترافقها في كل المرحل، مجموعة تقبلها بلا أحكام، بكل نقاط ضعفها وقوّتها، كما تفعل هي معهم. وإن كنت مع ذلك، أشعر أحيانًا أن للأدوار الجندرية في هذه المنطقة من العالم أثرها على تكوين الصداقات بشكل يستحيل أن يكون متكافئًا. فالشباب على ما يبدو يبنون أواصر الصداقة يمنةً ويسرةً منذ الطفولة، في الحارة وفي القهوة وفي أي خناقة تنشب في أي مكان في الكوكب، وبوسعهم الإبقاء على الصداقات سواء ممن جمعتهم بهم أوساط مشابهة، أو ممن نشأوا معهن في الحي، أو أصدقاء أولاد عمّتهم الذين التقوا بهم صدفةً، وصولًا إلى أي تاجر ممنوعات في المنطقة أو عامل جديد في القهوة أو أي شخص دخل دائرة لعبة الورق في أي زمن من الأزمنة، دونما أسئلة إضافية ودونما أحكام.

أما في حالة النساء فيفرض عليهن دومًا بذل جهد إضافي لبناء صداقات مع نساء تشبههن حصرًا، وإلا فهناك قابلية كبيرة لأن توصم الفتاة بأي صديقة تختلف عنها. فإن نشأت صديقة الطفولة مع خيارات مختلفة عنكِ، سيتوجب عليك التخلي عنها في مرحلة ما خوفًا من إطلاعها على خيارات حياتك الجديدة، والدخول في دوامة الأحكام المجتمعية المعلبة والجاهزة، سواء من قبلها هي التي كبرت على قبول وجه واحد للغلط والصواب تخشى على حياتها دونه، أو حتى من قبل محيطها الذكوري.

لسبب ما يخبرني الشباب تحديدًا بآرائهم حول صديقات أو فتيات أعرفهن عبر تعليقات مثل "هالصبية مبينة مش من جوّك" أو "هي ليش رفيقتك؟ مابدك ياها". يفاجئني ويزعجني ذلك في كل مرة، ليس فقط لأن الشخص القائل غالبًا ما يتسكع مع مجموعة من الرجال لا يعرف عنهم أكثر من اسمهم الأخير وناديهم الكروي المفضّل، بل لأني أيضًا لا أعرف ما هو "جويّ" الذي لا يُسمح لي بمد رجلي خارج حدوده، فأشعر أن في الأمر إهانة لي قبل أي أحد. هل يُمنع عليَّ اليوم إذًا، بحسب بروتكول اجتماعي لا أعرفه، أن أتخذ صديقات من نساء اتخذّن خيارات مختلفة في الحياة؟ هل يجب أن أشعر بالخوف والتهديد من النساء اللواتي حقّقن أكثر أو أقل مني على المستوى المهني أو التعليمي أو الكسب المادي؟ هل يفترض أن أدير وجهي للناحية الثانية عن رفقة الفتيات الأكثر أو أقل جاذبيةً وبريقًا أو تصالحًا مع هويتهن الجندرية أو حياتهن الجنسية؟ أم هل يفترض أن أخاف أنا من حكم النساء الأخريات علي وعلى خياراتي بحسب القواعد المفروضة علينا جميعًا من مجتمعات لا تشبهنا، فنغدوا جميعنا أكثر انعزالًا ووحدةً؟ ألا يعني ذلك أني عدت لألتزم الحواجز التي فرضها أهلي منذ الطفولة حيث لا مجال لتشكيل الصداقات حذرًا وخوفًا من العالم الخارجي؟

 

تؤلمني كثيرًا في الفترة الأخيرة الأسئلة السابقة وإجاباتها المحتملة، فلا أفهم لماذا تمتد الوصاية إلى ما بعد علاقات النساء وأجسادهن وأشغالهن ومسيرتهن المهنية، لتلوث كذلك الروابط والأواصر التي تجمعهن. لكنَّ كل توجس من هذا النوع هو ككل شيء أمر قابل للاستثناء، فقد كان الأمر كذلك في حالتي أنا مثلًا. أتأمل اليوم وجه أمي حين نعود لزيارتها في كل حين مع صديقاتنا، أتابع بهجتها بالبيت الممتلىء، وضجيج الموسيقى التي لا تتوقف، ووشوشة الأسرار التي تحاول التقاط أطرافها فلا تفلح، فأشعر حينها أنها لو قرأت مطلع نصّي هذا حول سلوكها أثناء طفولتنا، لأنكرت الأمر حتمًا. أما أنا فلم أعد ألومها بالطبع، فأفكر أنها لم تحظَ كامرأة، ما بين بيت أهلها وبيت زوجها، بعالمها الخاص الذي تختار من يدخله ويبقى فيه، ولم تتوصل بنفسها لاستنتاج ويجز الحاسم، أن "الدنيا إيه غير كم جدع بمسّي عليه؟".

مدونتنا