الحب في السر… هكذا علمنا الخوف

الحب… لطالما تجاهلته أمام العامّة ولهثت خلفه في مخيلتي، لا لشيء سوى أنني تعوّدت أنه يجب أن يبقى سراً، ولا يجب أن يعرف الآخرون ما نرتكبه من خطايا قد تنهش المجتمع والدين والأعراف. أذكر أسماء كثيرات مِتن بسبب الحب وأخريات دُفنّ في الحياة لأجله، آخرهن ماري جارتي التي تسكن في الطابق العلوي.  تنصحني  ماري باستمرار أن أحافظ على من أحب، كي لا أصبح مثلها، ماري التي أصبحت كابوساً لي ولصديقاتي اللواتي يزرنني باستمرار في بيتي ويسمعونها تُحدث قطط الحي يومياً.  أحبت ماري رجلاً شيعياً منذ ثلاثين عاماً ولم تحب بعده، أكدت لي ذات مرة أنها لو تزوجت من رجلٍ آخر لظلمته لأنها تعرف أنها لن تحب بعد "حسن".

 بالطبع قتلني الفضول لأعرف أكثر عن ماري لكني تجاهلته وأفعل ذلك يومياً وأظن أنني أعرف السبب جيداً. فأنا لا أريد أن أرى الموت أمامي كل ما خرجت إلى شرفتي، وماري سيدة ماتت منذ ثلاثين عاماً لذلك أحاول أن أنسى ما قالته لي وأن أعتبره "تخريفاً" بما أن ماري على الأغلب أصبحت على أعتاب الزهايمر دون أن تعيش حياتاً تندم على نسيانها.

لا يريد أحداً أن يصبح "ماري" لذلك نتجاهلها جميعاً، نتجاهل قصة حب فات الأوان على إنقاذها، وعليه أتشبث بشيءٍ واحدٍ الآن: أن لا أكون ماري بعد ثلاثين عامًا. وهذا لا يعني أنني أصبحت فتاة تلهث خلف "القفص الذهبي" بل على الأقل، إذا أعادني القدر فتاة وحيدة مجدداً،  يكون ذلك بعد أن استغلّيت كل الفرص المتاحة للحفاظ على الحب. "الحب البديل" الذي وجدته هنا في أحد أسواق بيروت، بعد أن كنت قد أقنعت أمي أخيراً أنني فتاة لن تبحث عن الحب وبعد أن خضعت هي أخيراً لتبديل دعائها لي بالسفر بدلاً من الزواج. هكذا هي الحياة مليئة بالمفاجآت، أنا التي كنت قد قررت  أني لن أبحث عن الحب في مدينة يصعب فيها أن تجد حليفاً نسوياً، وبعد أن تعرفت على رجال يخافون الارتباط بنسويات وآخرين يدَعون أنهم يدعمون الأفكار النسوية ولكن خارج علاقتهم الشخصية طبعاً. اقتنعت أنه يلزمنا وقتاً إضافياً بعد في هذه البلاد لنتعلم كيف نحب ويتعلم الآخر كيف يحبنا دون أن نُجبر على التنازل عن قناعاتنا التي حاربنا عائلاتنا وقرانا للحفاظ عليها.

لطالماً اعتبر البعض أن  النسويات سيهدمن مفهوم الحب وأن الحب من  منظورهن هو مفتاح لقهر المرأة، وهذا ما اعتقدته عالمة الاجتماع الفرنسية إيفا إيلوز. ربما كان على إيفا أن تسأل أكثر وتجري بعض المقابلات قبل أن تختم بقولها ذاك  لترى كم حاولنا قبل أن نفقد الأمل مرة أخرى من أن الحب والنسوية  سيجتمعان بيننا نحن والرجال. لا تكره النسويات الحب بل تنتظر أن يُقدم لها الشريك ما تقدمه في العلاقة لا أن تتخلى عن مبادئها مقابل تشبثه بما ورثه عن النظام الأبوي. وقد يكون ذلك أحد الأسباب التي جعلت بعض النسويات يخترن الإنخراط بالعمل والحياة أكثر بعيداً عن الحب الغيري، وربما الأهم من كل ذلك أننا قد فقدنا الوسيط بيننا وبين من يفكرون مثل إيفا،  وانشغلنا نحن أيضاً كنسويات عن دراسة الحب من منظورنا واكتفينا بربطه بالجنس والعنف … لذلك علينا مجدداً دراسته وتفكيكه كعاطفة وفكرة بسيكولوجيته وفلسفته التي تُترجم في تصرفات الآخر تجاهنا وتصرفاتنا نحوه، لذلك الخلل بالوسيط هذه المرة وطبعاً بالمجتمع أولاً.

المجتمع الذي عمل على تحديد علاقة النساء مع مشاعرهن عن طريق نفيها أو تحويرها. في حال اعترف بها تُسلم للوصي (الزوج) الذي يملك حرية التصرف بها. أما إذا كانت المرأة عزباء فالاعتراف بالحب يوقعها في مصيدة الشرف والسمعة السيئة، لذلك اعتدنا نحن النساء أن نعشق بالسر خوفاً من العقاب.

 أذكر جيداً قصائدي الأولى عن الحب تلك التي وجدتها الناظرة في محفظتي، في ذلك اليوم لم يرف لها جفناً قبل أن تصل إلى رجل العائلة، وأمي التي عملت جيداً على حمايتي في ذلك اليوم، أحضرت معها رجلين يؤديان دور خالي وابنه .  خالي الذي لعب دوره جارنا "معلم الستالايت" وابن خالي الذي أتقن دوره ابن جارتنا "قمر". الخال المزيف صدم الناظرة التي كانت تتشوق للصفعة التي يجب أن أتلقاها (كما تظن) وهو بدوره جعل الموقف أكثر غرابة بالنسبة لها بعد أن عبر عن فخره بي وبكتاباتي الإبداعية، ودعاها هي أيضاً إلى تشجيعي بما أني "أكتب جيداً". لم تقتنع الناظرة  وأكدت أنه "إذا كان لا بد من الكتابة والاستشعار فلتكتب مروة عن الربيع والطقس والفراشات". لا زلت أذكر هذا اليوم جيداً وأذكر كيف مزقت أمي دفتر مذكراتي بعد أن عرفت أن الناظرة أنها سترسله إلى إدارة المدرسة الداخلية بعد أن فقدت الأمل من الحديث مع خال مزيف منفتح. راحت تبحث عن سلطة تعاقبني على تلك الكلمات لتفوز بذكوريتها هي الأخرى. توقفتُ عن الكتابة لفترة طويلة قبل أن أعود وأشتري دفتراً جديداً مع مفتاح وقفل.

ماري التي مُنعت من الزواج ممن تحب وغيرها كثيرات قوضهن النظام الأبوي باسم الشرف والتقاليد التي علمتنا أن نحب بصمت أو أن نحب بعيداً. وهكذا بات البعض يلقبنا بـ "المتطلبات"،  لا لشيء سوى أننا نبحث عن حب بديل وشريك حليف لنسويتنا وهذا لا يتطلب أكثر من أن تحترم قراراتنا وأن يقدم لنا ما قدمناه لهم على مر العصور من دعم لقراراتهم واحترام لرغباتهم وأن نُحب كما نحن. ربما لذلك تغرق النساء في البحث عن استقلاليتهن ويحصل أن يخسرن الحب في رحلة البحث هذه لا لشيء سوى أن قلة هم الرجال الذين يتقبلون أن نكون مستقلات ومحبات في آنٍ واحد.

وعلى أي حال ماذا لو قررنا أن بقى وحيدات؟ هل سيبقى المجتمع يطلق علينا ألقابه؟ "عانس؟ ساحرة؟ مجنونة؟ ومتى ينصت لنا المجتمع ويتقبل أننا قد ننشغل بحياتنا أيضاً كما اعتاد أن يرى الرجال، منشغلين في ترتيب حياتهم وأولياتهم بعيداً عن الحب. أم أننا نرتبط إلى الأبد إما بالزواج المدبّر عبر العائلة وإما سنبقى نختبئ مع حبنا في المدن البعيدة كما كنا نخبئ "روايات عبير" المحمولة في الجيب كأنها أسرارنا الشخصية.

 

مدونتنا