إسرائيل" قصفتنا، "إسرائيل" تقصفنا، منذ كنّا صغاراً وهي تقصفنا
يصلني الصوت من بعيد، خفيفاً عميقاً، فأعلم أنّ الوحش فتح فمه، وأنّ صاروخاً آخر سيقع فوق أرضنا. أتوجّه نحو شبّاك المطبخ حيث تظهر حدود منطقة الغازية، فأرى الدخان يتصاعد، أصمت كثيراً. يعتريني الهدوء الذي يجعل لوني أصفر، وأردّد: "إسرائيل" قصفتنا، "إسرائيل" تقصفنا، منذ أن كنّا صغاراً وهي تقصفنا.
يوم أوّل "حرب شاملة"
تنقّلت طوال النهار بين مهام الأمومة ومحطّات الأخبار. لم تنزل لي دمعة واحدة إلا حين تلقّيت اتصالاً من شقيقتي لتعلمني أن عمّي كامل استشهد تحت ركام منزله. بعدها بعشر دقائق نفى شقيقي الخبر ففرحت فرحاً لا يُوصف. عمي كامل الرجل التسعيني، هو الشقيق الوحيد المتبقي من أخوة جدّي، وهو يشبهه كثيراً، صرت أتخيّل وجهه الجميل يتألّم، وصرت أنا أتألّم ولم يرتح لي بال إلا حين علمت أن كل العائلة أخلت القرية.
ومن بعدها انسحبت كل المشاعر منّي مثلما انسحبت بعد انفجار بيروت. منذ تلك اللحظة وأنا خدرة. فقدت قدرتي على الارتباط بكل ما يحصل من حولي إلا لأوقات قصيرة ومحدّدة. ربما هكذا صار عقلي يحميني. لكن هذه المرة مختلفة. هذه حرب، وأنا لم أعد وحدي فهناك طفل صغير يعتمد عليّ، وهناك رجل أحبه وأخاف أن أخسره أثناء تنقله، وهناك ناسي وعائلتي في الجنوب والبقاع.
ساعات النزوح
اتّصلت بي نور بعد رحلة نزوح من صور إلى صيدا، دامت أكثر من 10 ساعات، كنت قد شدّدت عليها بضرورة تواصلها معي عند دخولها صيدا، ووضعت هاتفي بالقرب منّي. لكنّني ومن شدّة التعب النابع من القهر والصدمة لم أسمع الهاتف وبقيت نائمة. عدت وتواصلت معها نحو الساعة السادسة صباحاً لتطمئنني أنها وصلت لتوها إلى بيروت، وأن مشاهد الناس في السيارات لا توصف.
تخبرني أن الناس في الزحمة كانوا ينظرون إلى السماء ويتحزّرون: "هل هذه نجمة أم صاروخ؟". تقول: "وقفتُ في منتصف الأوتوستراد، أنظر إلى يميني وإلى يساري ولا أرى سوى السيارات فلا أفهم إن كان النور الذي سطع لتوّه آت من غارة أو من سيارة. سمعت البعض يقولون إننا لن نصل إلى وجهتنا أحياء ومن الأفضل أن نفترش الطريق ونرتاح. آخرون يحملون أوعية الطعام التي جلبوها من منازلهم، وامرأة تشتكي من سيارتها التي انقطعت والرجل الذي خدعها".
كانت لحظات محزنة، هكذا تصف نور ساعات النزوح الطويلة التي عاشتها. تكمل: "قدت بعكس السير وفكّرت: ربّما لن تقتلني الحرب لكنّني بالتأكيد سأموت بحادث سير. الكل كان يتحدّث عن الشهداء، لكنّنا كنا معزولين عن مشاعرنا مقتنعين أن الدور سيأتينا على الطريق". تختم: "وجهتنا كانت المجهول، ننظر إلى بعض ونتبّسّم. ونلقي سؤالاً بلا إجابة: إنتو مناح؟ إنتو مناح؟ طمنونا من وين جايين؟. شعرت أنها المرّة الأولى في حياتي التي يلتقي فيها الحزن بنقطة سعادة، وذلك لأننا لم نكن وحدنا".
ليلة ثانية حرب
يأتي الاتصال من بيروت: ضربوا الجية.
مثل العادة أتوجّه نحو النافذة، هذه المرة نافذة غرفة النوم: ما شايفة ضربة.
- مبلا ضربوا الجية
- آه، وصل الخبر. مزبوط ضربوا الجيّة
أسأل يوسف لماذا لم يصلنا الصوت قوياً ونحن على مقربة من "الضربة"؟ أعطاني تفسيراً تقنياً لم أفهمه. في اليوم التالي أخبروني أن الصوت كان قوياً، ولكنّي لسبب ما لم أسمعه.
أشعر بالخجل من فكرة ارتياحي لعدم استيقاظ ابني. أخذني الأمر وقتاً طويلاً لأتقبل جدار الصوت ولأنقل له هذا التقبل. حين سمعته للمرة الأولى، كنا في حديقة المنزل، وكان هو في عربته المتحركة. أكاد أقسم أنني رأيت النيران تشب من على يساري ناحية الساحل. رميت هاتفي في الهواء وحملت العربة بقوّة خارقة حتى اللحظة لا أعرف ما أين جاءتني. هرعت نحو مدخل المبنى ومن ثم تذكرت مشاهد سقوط المباني على أهلها في غزة. تراجعت، سمعت جدار الصوت الثاني، بدأت أصرخ: "وين بدنا نروح". في النهاية وجدت نفسي مختبئة تحت شجرة الزيتون قبل أن يأتي جدّي ليقنعني بإفلات العربة والجلوس قليلاً. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها جدار الصوت في كل حياتي ومن بعدها بدأت أنتظره يومياً بقلق.
الضربات متتالية وقوية هذه الليلة، يمكنني سماعها بوضوح، أريد أن أجلس في غرفة الجلوس لأكتب، لكني لا أقوى على ترك ابني وحيداً على السرير. كنت قد نسيت شعور الخوف من الطائرة لكنّني تذكّرت، الآن الساعة الرابعة والنصف فجراً. أعصر نفسي من الخوف، لأن سنة الإبادة علّمتني أن الصاروخ قد يخرق، بأي لحظة، سقف البيت. أسكن الآن في منطقة "آمنة"؛ لكنّها "إسرائيل" ولا مكان آمن بوجودها.
طائرة مسيّرةفي المنام
وقفتُ أمام الطائرة المسيرة ورجوتها ألا تأخذ ابني مني. بكل ما أملك من دموع بكيت، طالبة الحفاظ على حياته. وحين نجونا ركضت نحو المنزل وضبت حقيبة السفر وقلت: لا بأس ببداية جديدة في بلد آخر، فالتعب أفضل من الموت. استيقظت ووجدت ابني لا يزال نائماً.
أشاهد رفاقي وهم ينعون أفراداً من عائلاتهم. الكل يبحث عن فرش للنوم ولا يجدون. التجار رفعوا الأسعار. النساء يحتجن إلى فوط صحية، والأطفال بلا أدوية. النساء المعوّقات يعانين أكثر من غيرهن. فلا المباني ولا المدارس مجهّزة لاستقبالهن، وأصلاً لم يعد هناك شقق للإيجار بأسعار طبيعية.
ووسط كل هذا "إسرائيل" تقصفنا وترتكب مجازر يومية. وأنا أعرف أن الحياة ليست عادلة، لكنّي لم ولن أعتد هذه الحقيقة. فهناك أطفال استشهدوا بعيداً عن أحضان أمّهاتهم. أحبّ حقّاً أن أتخيّل أنّهم ملائكة وأنّ اجنحتهم المرفرفة ستغير مجرى التاريخ إلى الأبد.