أبي الحبيب: كم أكرهُكَ!

تجاوزتُ منتصف الثلاثينات، ولا تزال إجابتي عن سؤال: "من تحبين أكثر، الماما أم البابا؟" واحدةً لم تتغيّر. "أمي ثمّ أمي". 

كلّ محاولاتي لقبول أبي، سقطت سقوطاً صارخاً مدوياً.

صديقتي تحبّ والدها "أكثر". كم كنتُ أجد ذلك غريباً. ماذا يعني ذلك؟ كان دماغي يعجزُ تماماً عن استيعاب فكرة وجود أب، يرعى ابنته لدرجةٍ تجعلها تحبّه أكثر من أمها. أبي يا ملاكي؟ غريبة والله.

صديقتي تأخذ مصروفها من والدها، تطلبُ منه كلّ ما تريد. كم كنتُ أجدُ الأمر غريباً. والدي كان يضرب أمي ليستولي على راتبها؛ ولم يعطني يوماً أي مبلغ، لم يشترِ لي شيئاً في حياتي، لم يساهم في أقساط مدرستي، لم يعطني شيئاً. وطبعاً، كأي ذكر عربيّ مسيطر، فرض على شقيقاته البنات التنازل عن حقهنّ في الميراث. الآن بات يعيش على حسابي. غريب، صح؟

صديقتي ترقص مع والدها في عرسها، وكانت تبدو فخورة وسعيدة. كم وجدتُ المشهد غريباً. لم أسمع يوماً أي تعليق لطيف من والدي. بالعكس، كان يُشعرني أن "شكلي فضيحة"، لا بل من مصائب حياته. 

رغم كلّ محاولاتي، لم أكن يوماً الابنة الصالحة، لأنني لم أكن البنت الجميلة. ذكرياتي معه حين كان يصطحبني غاضباً متنمّراً إلى متاجر الملابس، جزء أصيل من صدمات طفولتي.

حين أخبرني الطبيب أنني مصابة بورم، كنت في الحادية والعشرين. كان الموقف غريباً. لم يترك لي أبي مجالاً لأسأل الطبيب عن حالتي. كان عليّ عوضاً عن تلقّي خبر المرض وما سيليه من علاج، أن أحتوي غضب أبي، وأتعامل مع رفضه لصعوبة الموقف. أنا المريضة وهو الغاضب؟ حدث ذلك بالفعل. كاد الطبيب أن يطرده من العيادة.

كان أبي يضربنا. ليست بقصة جديدة. لم نعرف منه إلا الضرب والصراخ والتأنيب والترهيب. كانت آثار الضرب تبقى على جسدي لأيام، ثم تختفي؛ ولكنها بقيت مطبوعة في روحي لسنوات طويلة، وكانت تنقضّ عليّ في الكوابيس. 

عندما انتشر وباء كوفيد – 19، مات آباءٌ كثر، ولم يمت أبي. شعرت أن الحظ لم يحالف عائلتنا. حتى الأوبئة لا تقدر عليه!

أخشى أن طاقة النكد والسمّ عند والدي أكثر فتكاً من الأمراض، ومن القضاء والقدر بذاتهما، أستغفر الله العظيم.

أفكّر أن أبي، بطباعه القاسية، وعقله المعوجّ، قادر على تطفيش عزرائيل ذاته. لن يتحمّله أحد هناك، في العالم الآخر.

أخبرُ معالجتي عن أمنياتي لوالدي بالرحيل، لأن العالم سيصير بغيابه مكاناً أفضل. تصمُت. مرّ على كرسيها حالات أسوأ من ذلك، أعتقد؟ 

يتعامل المعالجون بكثرة مع حالات "قتل الأب"، كخطوة رمزية لنموّ الشخصية، والخروج من عباءة العائلة أو التقاليد، أو رسم مسار خاص في الحياة. 

أخبر المعالجة أن تصالحي مع فكرة موت أبي، يشعرني بأنني إنسانة مقيتة. أخاف أن أكون قد ورثتُ عنه طباعه البغيضة. 

أفكّرُ بلحظة الفقد، فأجدها لحظة حرية. لحظة فكاك من أكبر ثقل في حياتي.

إن توفي والدي لن أحزن، ولن أعرف الحداد. لهذا، أحسدُ صديقاتي على أعظم ابتلاء: القدرة على الحزن لفقدان أحد الوالدين. أحسدهنّ على دموع لن أذرفها. 

الآن عزيزتي القارئة، بتّ تعرفين أنني لا أحبّ أبي. هل حبّ الأب فريضة؟ إن كانت كذلك فأنا راضية بالعقوق.

ربما تحكمين عليّ بقسوة لأني أتجرأ على كتابة ذلك في نصّ على الملأ. أو أنّ قصتكِ هي قصتي؟ إن كانت كذلك، فهل تعرفين كيف يمكن أن نسامح آباءنا؟ ولماذا نعيش عار عدم التصالح مع كراهيتنا لهم؟ أليست الكراهية شعوراً طبيعياً في سياقات ينحصر فيها دور الأب بالتقييد والتخويف والتعيير والقمع؟

ربما تتفاوت حدّة التجربة وقسوتها، لكن المنبع واحد: دور الأب في مجتمعنا غالباً، هو التربية بواسطة الخوف. وهذا الخوف ثقيل، مكبّل، وخانق. كأنه البعبع.

لم يمتلك والدي قرار تزويجي، لكنه حوّر علاقتي مع الرجال بالكامل؛ أجد نفسي على الدوام خائفة من أن أكون "فريسة". 

لم يحتكر قرار سفري، لكنه امتلك قرار دخولي وخروجي ودراستي وخياراتي. كانت مراهقتي وشبابي عبارة عن سلسلة من المفاوضات الدائمة معه، يكون هو الفائز فيها دائماً.

يريدنا المجتمع طيّعات، ممحوات، غير مرئيات. والأب في عائلاتنا، غالباً، هو ذراع البطش، والسجان المكلّف إنفاذ العقوبة. لا بنات عندنا تخرج عن الطوع. 

لم أكن أمتلك جرأة مواجهته. وبمرور الوقت لم أعد أبحث عن حبّ الأب. كنت أريده أن يعتقني فقط. 

لم أفهم يوماً لماذا كان غاضباً طيلة الوقت. عندما اكتشفت النسوية، فهمتُ: ذكر ستاندرد، متسلّط، ويكره نفسه. قالت لي معالجتي إننا لا نستطيع تغيير أهلنا. ليس بأيدينا خلقنا تعساء، تقول الستّ أم كلثوم.

ولكني في الحقيقة لم أفكّر يوماً بإنقاذ أبي. كنت أريد إنقاذ والدتي منه. لم أفهم أبداً كيف ابتلت به. 

أجد أن أمي جميلة، وذكية، ولطيفة، ولا أفهم كيف أحبّت ذلك الغول. أحبّت أمي الضفدع، وحين قبّلته، لم يستحل أميراً. هل هذا هو "الحبّ الحقيقي"؟ ربما. أن تتقبلي شخصاً بكلّ هذه العلل؟ ولكن ما العبرة؟ أجد أن والدي دمّر أمي، وسحب منها كل طاقة الحياة، كأنه طفيلي يعتاش على قوة الحبّ المهولة التي تحملها هذه السيدة في العالم.

ولكنه أتعبها، وكان يمدّ يده عليها. ما أن صرت بطول يسمحُ لي بردعه، كنت أقف بينه وبينها، لمنعه من إيذائها. لا أفهم علاقة أمهاتنا مع فكرة الحبّ، والتعلّق، والارتباط بشخصيات مشوّهة. ربما لشعور عميق لدى النساء عموماً، بأنّ مهمتهنّ في الحياة هي إنقاذ رجل مدمّر؟ لا أعرف.

اقتربتُ من الأربعين، ولم أرتبط، وأعتقد أن جميعنا بتنا نعرف "السبب". وحين تقول لي أمي "شو، ما في شي هيك هيك"، أضحك. "مهضومة" ماما. 

حين غادرت المنزل للمرة الأولى للدراسة، وابتعدت عنه، لم أفهم الحالة. تطلّبني الأمر أشهراً كي أفكك واقعي الجديد: أن أفتح عيناي صباحاً، من دون أن أترقّب من ربّ المنزل تحديد مزاج اليوم. أنا أحدّد مزاجي؟ يا للهول! 

حين أمسكتُ راتبي الأول بين يدي، فكرت، على زهد المبلغ، بالفرصة: سأصنع مزاجي الخاص، براتبي، إلى الأبد!

كنت في السابق أتخيّل حياة أخرى، وأباً مختلفاً. لكنّي أعتقد أن أبي، علّمني درساً مهماً: ألا أتكل على أي أحد. أن أكون والدة نفسي. أن أخاطبها برفق. أن أمسك يدها في المواقف الصعبة. أن أدعمها. أن أشتري لها كلّ ما تريد. أن أسامحها لأنها ليست أحلى فتاة في العالم، ولكنها فتاتي. شكراً بابا.

مدونتنا