كيف تعلمتُ أن أرتاح دون أن أشعر بالذنب

لا أعلم من أين جاءت هذه الأفكار، لكنّها، وبوتيرة مختلفة، حرّكت حياتي لسنوات طويلة. إنه يوم سبت، الساعة العاشرة والنصف. يدقّ الهاتف، فأجلس فورًا لأنّ هذه المكالمة ضرورية. أبدأ بالصراخ، وأردّد بصوت عالٍ "ألو، ألو، ألو..." وكأنّي أحاول أن أوقظ صوتي. ثم أجيب على الهاتف.

-          ألو

-          ألو

-          شو، نايمة؟

-          لا لا... فايقة من زمان.

لا أعلم من أين جاءت فكرة خجلي من النوم، ومن الجلوس، ومن الراحة، تلك الفكرة التي تجعلني أشعر بالذنب كلّما حاولت الاستمتاع بالـ"لا شيء". في مراهقتي، كان النوم بعد العاشرة صباحًا ممنوعًا في منزلنا، لأنه دليل على الكسل و"التنبلة". وفي بداية العشرينات من عمري، كان التعب مرادفًا للحرية، فكنت أذهب إلى الجامعة، ثمّ إلى وظيفتي الأولى كبائعة، ثم إلى وظيفتي الثانية كمدرّسة خصوصية، لأحصّل حقّي بالعيش ضمن المعايير التي تشبهني. استمرّيت بهذا الإيقاع لحوالي سبع سنوات، إلى أن قرّرت أنّ هذا النوع من التعب لا يضيف لي شيئًا، فهو يلبّي احتياجاتي الأساسية بالكاد، ولا يريحني ماديًّا، وبالتالي كانت سلبيّاته تطغى على حسناته.

كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما قرّرت أن أغيّر علاقتي بالوقت والإنتاجية. أذكر يومها أنني كنت موظّفة جديدة في صحيفة، أكتب مقالات ثقافية بمقابل مادي جيد، لا بل أكثر من جيّد. كنّا في بداية شهر آب، وكنت جالسة على مكتبي الأبيض، أفكّر في المشادّة الكلامية التي حصلت مع مسؤولتي المباشرة قبل يوم، بعدما طلبت مني أن أكتب مقالًا لا يعكس قناعاتي، فقط كي ينسجم مع توجّه الجريدة، ورفضت. 

شعرت بثقل كبير يضغط على قلبي. توجهت إلى مكتبها وأبلغتها بقراري الاستقالة، فقبلته فورًا. ضحكت في نفسي على قلة تقديرها لمكانتي المهنية، بينما أنا أجهد يوميًا لأنتج مقالًا واحدًا مليئًا بالمعنى، بمحاولة صادقة للتواصل مع القارئ. جمعتُ أغراضي وخرجت من الباب الرئيسي للجريدة، ومع كل خطوة شعرت بالعبء يخف عن كتفيّ. صحيح أنني لم أكن أعرف كيف سأدفع إيجار المنزل نهاية الشهر، لكنني كنت واثقة من صحة قراري.

في تلك المرحلة، التي سبقت الانهيار الاقتصادي، عشت للمرة الأولى في بيروت تجربة امتلاك وقتي بصدق. صرت أسهر حتى ساعات الفجر، وأنام حتى الظهيرة، أستمع إلى الموسيقى التي أحب، وأكتب كل ما يخطر ببالي. لكن مع هذا الفراغ غير المنظم، اختبرت نوعين من المشاعر: الأول، اكتئاب خفيف ناجم عن فقدان الهدف الذي تمنحه الوظيفة. والثاني، شعور عميق بالذنب لأنني أشعر بالراحة، وكأن الراحة لا تليق بي. بدأت أقلق نفسي بأفكار سوداوية، وأغرق فيها، فقط لأبرر لنفسي أنني لست مرتاحة حقًا فلا داعي لأن أهاجم ذاتي. " أنظري أنا لست مرتاحة حقًّا فلا داعي لمهاجمتي". 

عدتُ وحصلتُ على وظيفة ثابتة لحماية نفسي من خطر الانهيار الاقتصادي الذي تزامن مع وباء كورونا، وعدتُ إلى روتين محدّد أثناء عملي من المنزل. وهنا بدأت الأسئلة تنهال فوق رأسي: هل يحق لي أن أستيقظ متى شئت طالما أنني سأُسلّم العمل المطلوب مني؟ هل يجب أن أتحدث أكثر عن جهدي وعَملي لأُثبت للمسؤولين أنني أستحق هذه الوظيفة؟ وهل أنا أصلًا أريد هذه الوظيفة؟ ولماذا كلّما أبدى أحدهم ملاحظات إيجابية على عملي، أبدأ فورًا في طرح أفكار جديدة وأصعب لأُبرهن على جديتي، وكأن العمل الذي يتم مدحه في تلك اللحظة لا يكفي؟ لماذا لا أستطيع أن أرتاح؟ 

في الواقع، من كان ينظر إليّ في تلك المرحلة كان يظنّ أنني لا أتعب حقًّا لأنني لا أقضي طوال ساعات يومي في العمل، بل أنجز العمل متى قررتُ إنجازه بسرعة كبيرة نسبيًا. وكان بعض الأشخاص يحاسبونني لأنني لا أريد الجلوس خلف اللابتوب ثماني ساعات متواصلة، ستعجل ظهري منحنياً مع العمر. أبرر لهم قراري بأنّه لا داعي لصرف كل تلك الساعات الطويلة على عمل يُمكن إنجازه في أربع ساعات، لكنهم كانوا يوسمونني بالكسل تلقائيًا. وفي المقابل، أحيانًا كنت أصدقهم، لأنني شعرت أنني لم أعد أتعب بما يكفي. 

أظنّ أن شعورنا نحن النساء بالذنب عند الراحة ليس شعورًا شخصيًا بالكامل، بل هو شعور أعمق يتسلّل إلينا عبر ثقوب العائلة والمجتمع والمسلسلات والتنظيرات. فنحن نكبر على صورة محدّدة للمرأة "المثالية"، تلك التي لا تجلس، لا تتكاسل، ولا تتذمّر، تستيقظ قبل الجميع وتنام بعدهم، تطهو، تنظّف، تعمل وتبتسم. وفي الوقت نفسه، تمتلك طموحًا مهنيًا خارقًا كسرت به لعنة العائلة، وأصبحت حرّة من سلطة الأعراف. لكنها، دون أن تنتبه، أصبحت سجينة الروتين والتعب، وترفض حتى أن تعترف بذلك مع ذاتها، لأنها خارقة.

هذه المرأة الخارقة زارتني بعد الأمومة، ففي الأيام التي كنت أستلقي فيها لأرتاح في منتصف النهار بعد ليلة سهر طويلة، كانت تأتي لتسألني: لماذا لا تكتبين؟ لماذا لا تحضرين طعام الغداء؟ متى ستعودين لممارسة الرياضة؟ ومتى سترتّبين الخزانة؟ فأنهض فورًا لأقوم بأمر مفيد بدلًا من أن أضيف ساعة نوم إلى الساعات الثلاث التي نمتها في الأربع والعشرين ساعة السابقة، لأنني، بحسب المرأة الخارقة، إن لم أستغل كل دقيقة فأنا إمّا فاشلة، أو أنانية، أو غير قادرة على تحمّل المسؤولية.

نتربّى نحن النساء على الاعتذار عن راحتنا، فالمرأة الخارقة التي زرعها المجتمع في أذهاننا على مدار سنوات طويلة، لا تتوقف حتى عندما تتعب. لهذا، حين نجلس ببساطة على الكنبة لشرب فنجان قهوة، نشعر أننا يجب أن نعتذر، أو نختبئ، أو نختلق حججًا مثل: "كنت عم بشتغل من شوي"، "يلا دقيقة وبقوم"، "يا الله شو عملت أشياء اليوم"، فنحن حتى حين لا يطالبنا أحد بشيء، نطالب أنفسنا بكل شيء.

بعد إرهاق عظيم، دخلت مرحلة تعلّمت فيها كيف أجلس دون أن أشرح سبب جلوسي، وكيف أستمتع دون أن أخترع قلقًا وهميًا يبرّر المتعة. كيف أقول بوضوح ومن دون ذرّة خجل إنه في الوقت الحالي لا أملك طموحًا وظيفيًا، لأن وظيفتي هي تربية ابني، وهذه الوظيفة هي الأصعب. وأنا لا أريد أن أخسر كل ما أملكه من منطق ومشاعر فقط كي أحاول أن أقسّم نفسي بين ما هو متوقع مني وبين المعايير المستحيلة.

ربّما لم أصل بعد إلى التصالح الكامل مع الراحة، لكن الذنب أصبح أقل. بدأت ألاحظ التفاصيل الصغيرة التي تجاوزتها لسنوات، مثل انعكاس خيالي على الحائط عند السادسة عصرًا، رائحة البن في المطبخ، أصوات الجيران في الحي، ومساحة الوقت التي صرت أسير فيها على مهل.



 

مدونتنا