وليسبقني سوق العمل... لستُ امرأة خارقة

راقبتُ رجلاً في عزّ الأزمة الاقتصادية في لبنان، يكاد يخسر الترقية التي أرادها بشدّة، لأنه لم يرضَ بالمبلغ المالي الذي سيحصل عليه. فبدأ بإرسال طلباته إلى مديره، مؤكّداً له أن الصيغة المقترحة لا تناسبه. يومها توتّرتُ كثيراً وقلتُ له، بما معناه، إنه من الأفضل ألّا يخوض هذه المعركة وأن يرضى باقتراحهم. لكنّه، وبكل ثقة، أجابني: "أرفض أن أضع هذا الراتب في سيرتي الذاتية، ولو أنه لن يظهر حرفياً، لكنّي أرفض أن أنزل بسعري". 

تفاجأتُ كثيراً بردّه، وتفاجأتُ أكثر حين أدركتُ أن القلق الذي انتابني حين شاهدتُ أحدهم يطالب بحقّه المادي هو قلق يرافقني طوال حياتي كامرأة. ولذلك لم أتمكّن يوماً من جني مبالغ مالية طائلة من الوظائف التي شغلتها، وهذا واحد من الأسباب الكثيرة التي جعلتني أخرج من دوامة الوظيفة. تبدأ الدوامة بحبّي الكبير للعمل وتنتهي بشعوري بالاستنزاف وبأن المقابل المادي الذي أتلقّاه ليس عادلاً. لكنّني أنا أيضاً لم أتعلّم أن أكون عادلة من الناحية المادية مع ذاتي. فهمي للمال وكيفية المطالبة به أو التعامل معه جاء متأخراً، مثلي مثلما يحصل مع الكثير من الفتيات والسيدات.

عيب وحرام

"لم يكن لدي كفتاة أي أموال خاصة بي. هذا النقص خلق لدي ثورة داخلية لم أتمكن من تنفيذها إلا حين بلغت من العمر 35 عاماً. حينها فقط، في العام 1981، حصلت على حريتي الشخصية والفكرية". 

تقول صبحية رزق، التي وُلدت في جنوب لبنان في العام 1946 ثم انتقلت للعيش في بيروت مع عائلتها وهي في الخامسة من عمرها، إنها لم تفهم يوماً كيف تتكون العلاقة مع المال، لكنها كانت مدركة أن المال هو الوسيلة الوحيدة لتحظى بزاوية خاصة بها في الحياة. لذلك، حين بدأت الحرب الأهلية وساء الوضع الاقتصادي وتهجرت مع أطفالها، اتخذت المرأة الثلاثينية قرارها بالعمل. يومها، حين أبلغت والدها، قال لها: "ما عندنا بنات تشتغل". فردّت عليه: "ما عاد عندك بنات بالبيت، وما عاد تقلّي حلال وحرام". 

تشرح رزق أن عبارة والدها لم تكن أمراً بل كانت ببساطة قناعاته، فبالنسبة له، الفتيات لا يعملن ولا يجنين المال. "شعرت بغصّة بداخله، فهو لم يفهم كيف سأدخل سوق العمل ولم يكن لديه تصوّر أو حتى تخيّل عن كيفية عمل النساء خارج الإطار الرعائي". 

تقول صبحية إنها حتى عندما استقلت مادياً وأصبحت منتجة، اختارت أن تصرف أموالها على عائلتها أولاً وعلى نفسها ثانياً. وتضيف: "أردت لأطفالي أن يعيشوا حياة مريحة تنعكس على نفسيتهم، فحين كانوا يكتفون، كنت أشعر أنا أيضاً بالاكتفاء". 

لكن على الرغم من الاكتفاء العائلي الذي شعرت به بسبب عمل زوجها وعملها هي، إلا أنها لم تشعر بالاكتفاء المادي داخل وظيفتها. وتشرح: "لم آخذ حقي من الناحية المادية، فكنت أجد نفسي أعمل أكثر مما أجني. في السنوات الأولى كنت أخجل فلا أتحدث في الأمر، لكن مع مرور السنوات ومع فهمي لحقوقي المادية، شكّلت لجنة وأصبحت المحرك الأساسي للمطالبة بزيادة رواتبنا لتتماشى مع الغلاء المعيشي الذي أحاط بنا. وهكذا ارتحت مادياً". 

منذ طفولتها تساءلت صبحية: "لماذا يجب أن يعمل أخي وأنا لا أعمل؟" وبقي السؤال داخلها لسنوات طويلة إلى أن وصلت الأموال إلى يدها واكتشفت أنها المعبر الأساسي لحريتها. لذلك، بعد أن تقاعدت من وظيفتها، لجأت إلى التجارة، فبدأت ببيع ملابس "البالة" في الأسواق الممتدة من الشمال إلى الجنوب، وتستمر في عملها حتى اليوم. تختم بالقول: "صحيح أنني اكتشفت علاقتي مع المال في عمر متأخر، لكن ما فعلته حينها كان تحدياً لكل ما كنت أعرفه. في صغري كان "عيب" أن نطلب المال سواء من الأب أو حتى من الزوج، فالمرأة، بحسب تقاليدنا، يجب أن تكتفي بمنزلها وعائلتها. أنا لم أقتنع بهذه الحياة، وحين فرضت ظروف البلد الفقر علينا، اقتنصت فرصتي. وعلى الرغم من كل الرواسب التي كانت بداخلي، اليوم وأنا أبلغ من العمر 78 عاماً لم أعد أخجل من المطالبة بالمال". 

تجليد كتب

أفكر بجدتي التي عملت كمزارعة طوال سنوات شبابها. جدتي التي كانت تمشي لما لا يقل عن 6 ساعات يومياً لتوصل الطعام لأولادها الذين يعملون في مناطق بعيدة، ثم تعود وتجلب الماء من العين. جدتي نفسها التي أرسلت جميع فتيات العائلة إلى بيروت ليكملن تعليمهن الجامعي، فأصبحن الجيل الأول المتعلم في العائلة. هي وحدها من شجعتني على العمل وإنتاج مالي الخاص. وأنا، بعد أن راقبت السلطة الاقتصادية وكيفية سيطرتها على كل جوانب حياتنا، ابتداءً من الخروج من المنزل وصولاً إلى الزواج، قررت أن أحصل على وظيفتي الأولى.

حين دخلنا نحن، فريق موسم الصيف، إلى الطابق السفلي، أعطتنا مديرتنا التي كانت لطيفة جداً مجموعة أوراق لنحفظها، وهي عبارة عن لوائح الكتب المطلوبة لكل مدرسة من مدارس مدينة صيدا والجوار. فور نظري إلى الأوراق شعرت بالتوتر، وأخبرت المسؤولة أنني أفضّل استلام مهمة تجليد الكتب. في الحقيقة، لم يكن السبب عدم قدرتي على الحفظ؛ بالعكس، فأنا أملك ذاكرة عظيمة، لكن خوفي من التأخّر في تلبية طلبات الأهل أو نسياني موقع كتاب الجغرافيا، وسيطرة توتري الاجتماعي على عملي، كانت ستشعرني بالفشل. 

لذلك، قضيت ساعات طويلة من الدوام وأنا أجلّد الكتب واضعةً الروايات أمامي. هذا الخوف من الفشل، أو من عدم تأدية المهمة بطريقة مثالية، والقلق من التفاعل الاجتماعي حينها، جعلني أنزوي في كثير من الأحيان في مهن اخترتها لاحقاً تتطلب الظهور والقدرة على الكلام بقوة، وبالتالي خسرت الكثير من المال الذي كان يجب أن أنتجه. بالإضافة إلى ذلك، جزء كبير من هذه الخسارة حدث لأنني لم أقدّر يوماً أهمية العمل الذي أنتجه. لدرجة أنه حين بدأت بكتابة المقالات، لم أكن أعلم أنني سأتلقى مستحقات مالية إلا حينما تواصل معي مسؤول قسم المحاسبة في الجريدة ليعلمني أنه يجب عليّ المرور وأخذ بدل أتعابي عن العام الماضي قبل أن يقفلوا حساباتهم. يومها استغربت كثيراً أن أحدهم يريد إعطائي المال فقط لأنني كتبت.

الآن، بعد مرور حوالي عشر سنوات، أفكر أنني لم أتعلم يوماً أن لأتعابي قيمة، وكنت فقط ممنونة لفعل الكتابة. وهنا كمنت المشكلة، وهي أنني كفتاة في بداية تشكيل وعيها، كنت قد تعودت على خدمة المجتمع وتنفيذ كل ما يُطلب مني، فلم أُدرك أن الإنتاج المعرفي الذي أملكه له قيمة مادية.

ولدت فقيرة وستبقى فقيرة

كانت ميرنا (40 عاماً) في الخامسة عشرة من عمرها حين هربت من منزل والدها لتتزوج ابن جيرانها الذي أحبته، رافضة الزواج من ابن عمها كما أرادت لها العائلة.

يومها، هربت من الشمال، حيث كانت تعمل في إحدى المدارس مع والدتها، وقصدت بيروت حيث بدأت العمل في المستشفى وفي المنازل كعاملة نظافة. ليست لميرنا قصة معقدة، فهي لا تحب التعقيدات أساساً. حين سُئلت في المستشفى عن الراتب الذي تتوقعه مقابل العمل لمدة عشر ساعات يومياً، أجابت: "قد ما بدك". وحين تذهب إلى المنازل وتُسأل عن المبلغ الذي تتقاضاه مقابل الساعة الواحدة، تجيب: "قد ما بدِّك". ميرنا موهوبة جداً في مجال عملها، ولو كانت تعرف كيف تترجم هذه الموهبة إلى مال، لكانت اليوم امرأة غنية. لكنها لا تعرف، وتخاف كثيراً. حين تتلقى راتبها، تعطي نصفه إلى ابنها والنصف الآخر إلى زوجها. وعندما سألتها عن السبب، قالت: "بعطي مصرياتي لابني حتى يقدر يعيش، ولزوجي حتى يخلّيني كمّل شغل. إذا ما بعطي مصاري بقلي: "هيدا الشغل كلو ما في منّه فايدة".

وهكذا، لأن ميرنا لا تعرف قيمة عملها، أو بالأحرى لأنها لم ولن تتعلم يوماً أهمية إنتاجها ومدى حاجة كل من يوظفها إلى وجودها، ولأنها تخجل من طلب المال، ستبقى فقيرة طوال حياتها.

الوظيفة الأولى

لم أفهم يوماً المال، ولا كيفية التعامل معه أو طلبه من سوق العمل، أو حتى قيمته. في الحقيقة، احتاج الأمر دخول رجل إلى حياتي كي أكتسب قوة المطالبة بحقوقي المادية. أسمعه يتكلم عبر الهاتف ويعلن عن الأسعار، فأقول له تلقائياً: "مش شوي عالي الرقم؟" فيرد علي: "وصلت لهذا الرقم بعد سنوات طويلة من الجهد." فأفكر: "آه، معه حق. بس أنا أرقامي بعدها تقريباً نفس الشي." وأتساءل كيف أن الرجال، كونهم برمجوا منذ الصغر على إنتاج المال، يفهمون كيفية التعامل معه من كل الجوانب. أما نحن النساء، ففي معظم الأحيان نتعلم كل هذه الخبايا في وقت لاحق وبعد أن نكون قد دخلنا سوق العمل.

تقول ميا (17 عاماً) إنها لم تفكر يوماً بالعمل، وكانت تعتقد دائماً أن وظيفتها الأولى ستأتي في وقت لاحق من حياتها. تحديداً لأنها لا تشعر بعلاقة واضحة مع المال، فهي لا تطلبه عادةً وتتعامل معه بحذر شديد وبحدود وضعتها لنفسها.

تشرح: "حين بدأت العمل في وظيفتي الصيفية الحالية، ظننت أنني متدرّبة فقط، ولذلك كنت متوترة جداً في نهاية الشهر الأول لأنني لم أعرف إن كنت سأتلقى مردوداً مالياً أم لا. وعندما جاء اليوم المنشود ووجدت الأموال بين يدي، شعرت أنني أقف على قمة العالم. ولكن لاحقاً، شعرت أن لا قيمة فعلية لهذه الأموال، وأن غايتي الوحيدة من جنيها هي الاستقلال الجزئي عن عائلتي. إذا أردت شرح علاقتي مع المال، سأقول: "لطالما شعرت بالخجل من طلب المال من عائلتي، وهذا الخجل امتد معي إلى مكان عملي، لدرجة أنني لم أسأل عن الراتب الذي سأتلقاه أو إن كنت سأحصل على راتب من الأساس."

ويسبقني سوق العمل... طز

هناك سؤال في مقابلات العمل يضحكني: "صفي نفسك بكلمة"، وآخر يوترني: "ما هو الراتب الذي تتوقعينه؟". في كل مرة كنت أتوقع رقماً، كان صوتي يرتجف. مرةً اعتذرت عن الرقم الذي طلبته لأنه كان أعلى من المتوقّع، رغم أنني أستحقه، لكني اعتذرت.

منذ صغري، علمت أنني يجب أن أجني أموالي الخاصة كي أكون امرأة قوية ومستقلة. لكن لم أكن أتوقع أن يصبح هذا الشعار لعنة عليّ، خصوصاً بعد أن أنجبت طفلي. في المنزل الذي أعيش فيه مع زوجي، ليس عليّ أن أعمل، فالعمل قرار اتخذته بنفسي ووضعت شروطه. أعلم أنني محظوظة بهذه الامتيازات، ولكن لماذا أشعر بالذنب والفشل عندما أجني أموالي الخاصة؟

أحياناً أشعر أن النظام الحالي التفّ على نفسه ليخنق النساء. كانت صبحية تعاني لأنها مُنعت من العمل، والكثير من النساء في جيلنا اليوم يعانين لأن العمل فُرض عليهن دون مراعاة لمسؤولياتهنّ وأنماط حياتهنّ، ابتداءً من غياب إجازات الدورة الشهرية، إلى عطلة الأمومة المجحفة، وصولاً إلى عودة الأم إلى عملها وكأن شيئاً لم يتغير في حياتها.

كنت على وشك إنهاء إجازة الأمومة حين صفعني الواقع. في تلك الأيام، كنت أنام حوالي 5 ساعات متقطعة في اليوم، وأستيقظ طوال الليل لإرضاع ابني. وبعد الرضاعة، أجلس 40 دقيقة إضافية لأضخ الحليب لضمان وجبة مشبعة له لأنه يعاني مشاكل في الرضاعة. ومن ثم تأتي المهام المنزلية، المغص، تحضير الطعام، والدخول إلى الحمام، والاستحمام، ومحاولات "نامي بس ينام الولد"، التي تنتهي بقيامي من السرير للحصول على نصف ساعة أستمتع فيها بالصمت.

ثم تراودني الأسئلة: لماذا أفقد شعري؟ لماذا أسناني صفراء؟ متى وصل هذا البريد الإلكتروني الذي يرحب بعودتي إلى العمل؟ متى سيتوقف البكاء؟ هل هذا صوت القطة أم ابني؟ لماذا جسدي يمنعني من خسارة الوزن؟ ولماذا أشعر بالفشل رغم أنني أعمل طوال الليل والنهار؟

في ظل كل هذا، وبينما جسد الأم لم يتماثل للشفاء بعد، وهي أساساً في قمة قلقها، أصبح النظام الذي قال لنا قبل عقود أننا لسنا صالحات للعمل، يتوقع منها أن تخرج من سريرها الذي لم تنم فيه طوال الليل، وترتدي ملابسها وتعود للعمل لتجني المال، وإلا فإنها لم تحقق ذاتها. وبعد أن تنهي دوامها، عليها أن تعود إلى عملها الرعائي في المنزل. وهنا أتساءل: متى أصبح العمل الرعائي شتمية؟ ولماذا نعمل بدوامين ونتقاضى راتباً واحداً فقط؟

لماذا أصبح عملنا الرعائي مجانياً تحت إطار أننا اليوم نجني مالنا الخاص ونساهم في كل جوانب الحياة ضمن معادلة الـ 50/50؟ في الواقع، بالنسبة لي، لا يوجد 50/50، فالكلفة الجسدية العالية جداً التي تدفعها المرأة لا يدفعها الرجل. العمل الرعائي مع الأمومة، وعن تجربة، يعادلان بالنسبة لي ثلاث وظائف بدوام كامل. وبعد أن اختبرت هذه الحقيقة، وجدت نفسي غير مستعدة لإثبات شيء لأي أحد. لا أريد أن أكون امرأة خارقة، وأن أستمع لنفسي، وأجد طريقتي الخاصة لجني المال.

وفي تلك المرحلة التي جعلتي أقرّر أن لا أكون امرأة خارقة، صرت أفكر في الأمهات اللواتي يجلسن في الحمام خلال دوامهنّ لضخ الحليب لأن المؤسسات لا تخصص غرفة للأمهات المرضعات. يعدن إلى المنزل ليقدمن وجبات مفرّزة لأطفالهن في المساء. هذه الصورة وحدها تجعلني أقول: "يسبقني سوق العمل... طز." أنا أعمل 24 ساعة في اليوم، وها أنا أكتب هذا المقال الآن في الساعة 3:34 صباحاً، لأنه الوقت الوحيد المتاح لي.

المال منحني الحرية، هذه حقيقة. ولكن هذه الحرية التي نحصل عليها كنساء من خلال الاستقلال الاقتصادي تفرض علينا في حال قررنا أن نصير أمهات، سجناً من التعب والواجبات التي لا تنتهي، والكثير من القهر، واللاعدالة، ووجع الظهر. ولهذا، علينا إيجاد طرق فرعية نسلكها حين تتبدل حياتنا. ما هي هذه الطرق؟ لا أعرف.

أعلم أنني محظوظة لمجرد مناقشتي لهذه الفكرة. لكن لا يمكن فصل الحرية التي نحظى بها عن نظام لا يفكر بالأم العاملة إلا بشكل سطحي وجزئي، ويطردها فور دخولها الأمومة. النظام الذي يطرد النساء أولاً في كل أزمة.

كان عليّ أن أفصل قيمتي كامرأة عن إنتاجيتي في سوق العمل، وأن أفصل استقلاليتي عن الوظيفة، وأن أتقاضى كل الأموال التي أستحقها عن العمل الرعائي الذي أقوم به. كما كان عليّ أن أقول لنفسي: صحيح أنني حصلت على حريتي في صغري لأنني استقللت اقتصادياً، لكن لا يمكن، وليس من العدل، أن تكون كل حريتي كامرأة مشروطة بالمال بدلاً من أن تكون محمية في كل مراحل حياتي ضمن نظام عادل.

مدونتنا