أنا الساحرة الشمطاء التي تخافون منها

لم أحبّ في طفولتي شيئاً بقدر حكايات الخيال، وأفلام أميرات ديزني، وفساتينهنّ، ورذاذ العصا السحرية اللمّاع. أحببت الأمراء أيضاً وأحصنتهم البيضاء، وتخيلتُ أنّ أحدهم سيأتي لإنقاذي يوماً ما. ولكن ممّن؟ لا تنين يحرس برجي، ولا برج في بيتنا أصلاً، وليس لديّ زوجة أب، ولا شعري طويل كالأنهار، ولم يدعُني أيّ وحش إلى مائدة العشاء.

رغم اختلاف واقعي عن قصص الخيال، كنتُ طفلةً مقتنعةً بأن البنات حين يكبرن يصبحن أميرات، وأن ذلك هو المسار الطبيعي لكلّ بنت: تكبر، ترتدي فساتين تلمع، تقفز بين الأزهار، تتحدّث بصوت ناعم، تركب عربة مذهّبة، وتغني مع الطيور. 

ومع الوقت، اكتشفت بعض الحقائق المرّة: خصري كان أعرض من خصور الأميرات، ولم أتعلم فهم لغة الحيوانات؛ وفكرتُ كثيراً أنّ الأمير إن وصل، فلن يقدر على حملي. تضحكني الفكرة. كم كان عقل الطفلة مشغولاً بمقاييس وسيناريوهات وهميّة!

لم تغفر الطفلة في داخلي للعالم بعد حرمانها من لقب "الأميرة"، ولكنها استعاضت عنه بطموح أعظم: أن تكون امرأة مزعجة. ها قد كبرتُ لأصير ساحرةً شمطاء، وكلّ ما ينقصني هو الحصول على رخصة لقيادة المكنسة الطائرة.

لا مشكلة لديّ مع "الأميرات"، ولكني فهمت أن ثنائية "الأميرة الطيبة الجميلة/ الساحرة الشريرة القبيحة" ليست إلا أداة لتخويفنا من قوانا الكامنة، وردعنا عن امتلاك سردياتنا.

في كتابها "ساحرات: قوة النساء التي لا تقهر"، تتحدث الكاتبة الفرنسية منى شوليه عن ظاهرة صيد الساحرات عبر التاريخ كحملة للسيطرة على النساء اللواتي تحدّين القوالب التقليدية. وبالاستناد إلى المراجع التاريخية، تحكي الكاتبة كيف استخدمت تهمة "الساحرة" لتخويف النساء وإجبارهن على الالتزام بالأدوار الاجتماعية المحددة لهن عبر التاريخ، وإلا سيكون مصيرهنّ الحرق.

كانت حملات صيد الساحرات التي شهدتها أوروبا وأمريكا الشمالية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، موجهة في كثير من الأحيان ضد النساء الكبيرات في السن. وأدى نشر كتاب "مطرقة الساحرات" عام 1487 إلى تكثيف الاضطهاد، مع تصويره المشعوذات "المتحالفات مع الشيطان" كنساء عجائز. وكانت الحملات تعتمد على اتهامات بلا أدلة ملموسة، ضد النساء المسنات اللواتي اعتبرن "تهديداً". فهنّ من جهة "لم يعدن نافعات" من وجهة نظر المجتمع، إذ لا يمكنهن الإنجاب، ولا العمل في الحقول، ومن جهة ثانية، كنّ يمتلكن معارف قد تهدّد سلطة رجال الدين، مثل المداواة بالأعشاب، أو فهم أسرار الطبيعة. هكذا، كنّ يتهمن بممارسة السحر الأسود والتسبب بالكوارث الطبيعية أو الأوبئة، وكلّ أنواع الشرور.

استردّت النسويات لاحقاً صورة الساحرات وحررنها من معانيها السلبية. ولم تعد كلمة "ساحرة شمطاء" تهمة "شنيعة"، بل رمزاً لمقاومة النظام الأبوي التقليدي. 

في الأدبيات النسوية، تحولت صورة الساحرة من شخصية شريرة إلى أيقونة. مثلاً، في أواخر ستينيات القرن الماضي، تبنت الموجة النسوية الثانية صورة الساحرة كرمز لرفض الأدوار التقليدية المفروضة على النساء وللمطالبة بالمساواة والتحرر. على سبيل المثال، استخدمت مجموعة "مؤامرة النساء الإرهابية الدولية من الجحيم" (W.I.T.C.H.)  في الولايات المتحدة، صورة الساحرة في المظاهرات، وارتدين أثواب سوداء وقبّعات مسننة.

في كلّ مرة يساورني الشكّ حول قوّتنا كنساء في مواجهة العالم، أستعيد مثال جداتنا الساحرات اللواتي تعرّضن للإقصاء وحتى القتل، وكانت تهمتهنّ الوحيدة هي "عدم الامتثال". وفي كلّ مرة أشعر أن معاركنا اليومية أثقل من أن نتحمّلها، أذكّر نفسي وصديقاتي بالتالي:

1- لا أحتاج إلى أمير

قراراتي وخياراتي وأحلامي ملك لي، ولست بحاجة لمن ينقذني، لا أمير ولا من يحزنون. لا أحتاج للبقاء في خانة الانتظار، مستقبلي أرسمه بيدي. فنحن لسنا بحاجة إلا إلى شركاء يخففون ثقل الرحلة. ووجودنا كنساء في مجتمعات تحاصرنا، ولا تؤمن بطاقاتنا، لا يعني أننا "دوماً في ورطة" وأننا نحتاج إلى مساعدة وإنقاذ.

2- حكمة الجدّات

كلّ واحدة منا تحمل في داخلها حكمة الجدات ومعرفة تراكمت مع مرور الزمن، تسري في عروقنا. نعرف شكل الغيم، ورائحة التراب، ونحضن الأشجار وتحضننا. نسمع لأجسادنا، نفهم رغباتنا، وبالحبّ والصبر نقدر على مداواة جروحنا وجروح من حولنا.

3- لا قيود

الخروج عن المألوف ليس تهمة ولا جريمة، سواء في المظهر أو الأفكار. فـ"المألوف" أو "المسموح"، ما هو إلا سلسلة من القواعد التي صيغت لتدجيننا على ترتيبات اجتماعية تحصر كلّ فرد بدورٍ جندري منزل. ليس علينا على الإطلاق تصغير أقدامنا لكي تتسع لقالب الحذاء الزجاجي. القوالب النمطية والتوقّعات كلها قيود وهميّة تريد أن تجعل منا نساء طيّعات لنماذج قد لا تشبهنا ولا تعبّر عن حقيقتنا؛ نساء مقيدات، وغير متصلات بحقيقتهنّ.

4- جميلة أم قبيحة لا فرق

نزعة الناس الدائمة لتقييم شكلنا كنساء هي نتيجة لتراكمات فكرية عبر القرون، ونوع من فرض السطوة، من خلال حصر الجمال بمقاييس محدّدة مسبقاً. الحديث الدائم عن الشكل والجمال والقبح ليس إلا وسيلة لإشعارنا كنساء بالنقص إن كانت طبيعتنا الجسمانية أو ملامحنا لا تتوافق مع تلك المقاييس. كلمات مثل "جميلة" أو "قبيحة" أو "مثيرة" مجرد تصنيفات لإيهامنا بأننا أسيرات "نظرة الرجال"، وبأن قيمتنا مرتبطة بالمظهر، وبأننا أشياء تخضع دوماً "للتثمين" بحسب الطول والوزن والعرض. مقاييس الجمال تتغير عبر الزمن، وقيمتنا ليست مرتبطة بها.

5- مقاومة!

نتعلم كنساء أن نختار معاركنا بعناية، لأن كل خطوة في يومنا، وكل قرار، يمكن أن يتحوّل إلى حرب ومفاوضات طويلة مع المنظومة الأبوية بدءاً من شكل ملابسنا وصولاً إلى خياراتنا الحياتية المصيرية. حين أتخيّل نفسي بالقبعة السوداء المسننة، أعرف أنني رسمت الحدود، وأعلنتٌ على الملأ أنني مقاومة لكلّ من يريد التدخّل في ما لا يعنيه.

6- أتغيّر

مثل دورة الشمس والقمر والفصول، أتغيّر. أعرف أننا كبشر لسنا صخوراً صمّاء ولا آلات تفتقد للمشاعر، وأفكارنا وتجاربنا مرنة، تعلمنا كيف نخوض الحياة باستغناء عن كلّ ما قد يكبلنا. وتماماً كما تغيّر الأرض أثوابها في كلّ موسم، أخرج من قوقعتي دائماً، أتقدّم، أنطلق، أثق بإمكانياتي، وقوتي الذاتية التي لا تقهر، وأتسلّى بمراقبة تحوّلاتي. التغيير ليس خيانة لنسخ سابقة منها، بل هو مدّ اليد للطفلة التي كناها والمرأة التي سنكونها، لمنحها كلّ الفرص بلا حدود. وكما الساحرات، يمكنني أن أكون قطة، أو نسراً، أو فيلاً، أو تنينة. لا حدود للاحتمالات!

مدونتنا