خفت أن أصبح مثل أمي... حتى فقدتها

تستيقظ أمي صباحًا، تُحضّر القهوة، تذهب إلى سوق الحي معها عربة صغيرة تضعُ فيها أغراضها، تزور والدتها، لتعود إلى المنزل، وتطبخ، وتجلس. تأخذ قيلولة صغيرة، تجلس، تشاهد التلفزيون، تتصفّح فيسبوك، تحمّص ساندويشة جبنة، وتنام.

 

هكذا كان روتين أمي. روتين شعرتُ أنّه لا يشبهني، فأنا لم أرغب أن أصير مثلها. لم يكن السبب ذلك الروتين بحسب، بل خفت أن أترك حياتي، وأكون أمًّا في منزل، وزوجة لزوج متعب في أغلب الأوقات. خفتُ أن تصبح حياتي مملّة، ألًا أسافر حول العالم، أن أكون معلّقة بأمي، وزوجي، وأطفالي. خفت أن أصير مثلها، متسامحة مع شريكي، وأفضلُ ما يمكن أن أنجزه هو طبخة محشي ورق العنب.

 

علاقاتنا مع أمهاتنا أكثر علاقة معقدة. ففي العالم المعاصر الذي يشجع على الاعتناء بالذات، يُعدّ الانفصال عن الأم وقطع الحبل السري نوعًا من الشفاء، ورحلة طويلة لا يمكن اجتيازها بسهولة. لكنه أيضًا إنجاز يمكّننا من تربية أبنائنا ليكونوا أفرادًا مستقلين، لا امتدادًا لنا.

 

لكن أحيانًا، لا تعرف أمهاتنا كلّ ذلك، ويتعاملن مع أبناءهن كما تعلموا الأمومة من أمهاتهن. ولهذا، فإنّ الشفاء وقطع الحبل السري أمر غير وارد بالنسبة لهنّ. تصبح العلاقة أكثر تعقيدًا حين نخوض رحلة استكشافنا لمبادئنا النسوية ولآرائنا السياسية، لنجد أنّنا لا نلتقي مع أمهاتنا فيها. وهنا ستكون ردود فعلنا مختلفة: قد يسحقنا هذا الاختلاف ويجعلنا غير قادرات على التواجد معهن، أو يولّد فينا شخصية خائفة ومعقدة من تجربة أمّها.

 

لكن مهما ابتعدنا، سوف نجد ظلّ أمنا في كلّ المواقف. فحتى لو خفت من التسامح مع الشريك كأمي، أجد نفسي متسامحة أكثر مما يجب. ربما يأتي الخوف من أنني اكتشفت متأخرة أنني ورثت الكثير منها. في السنوات الأخيرة، عملت مع معالجتي النفسية على ألّا أكون مثل أمي. لم يكن ذلك تدبيرًا احترازيًا، بل ببساطة اكتشفت أنّني مثلها، في أمر كثيرة، وأنني، من دون أن أعلم، أحاول أحيانًا أن أعيد التاريخ.

 

في إحدى المرات، طلبت مني معالجتي أن أرسم كل الشخصيات التي تسكنني، وأن أحدد أيّها أريد أن أقتل. وفي النهاية، اكتشفت 21 شخصية، ولم أرغب في قتل أيّ واحدة منها… سوى شخصية أمي. مثّلت أمي كل ما لا أطمح إليه، حتى ماتت فجأة بسكتة قلبية عن عمر 53 عامًا. موت كبير كنت أخشاه طوال حياتي. هناك كانت الصفعة… لم أعد قادرة على قتل شخصية أمي في داخلي، بل كان عليّ أن أحييها من جديد.

 

الموت غريب يُغير مسارات كل رحلاتنا. بعد موت أمي، فهمتها أكثر، وكأنّني أراها، للمرة الأولى، بالعين الثالثة، وليس من علاقتنا كأم وابنة. هي ابتعدت كل البعد حتى صرت أرى كل تصرفاتها صحيحة. يترافق الموت - بالأخص موت الأم - مع نوع من التقديس. وذلك ربما لأننا تعلمنا احترام الميت، وأن "الميت بدنيا الحق"، أو لأننا نعود أطفالًا نرى الشخص أمامنا مثاليًا، كما يرى الأطفال أمهاتهم.

 

تميل الكثير من الفتيات والنساء اللواتي فقدن أمهاتهن في سن مبكرة إلى رسم صورة مثالية لهن بعد الوفاة، وهي ظاهرة تناولتها هوب إيدلمان في كتابها بنات بلا أمهات: إرث الفقدان (2018). تشرح الكاتبة كيف أن غياب الأم يؤدي في كثير من الأحيان إلى تضخيم الذكريات الإيجابية، بينما تتلاشى الجوانب الإنسانية الأكثر تعقيدًا.

 

هذا الميل إلى المثالية قد ينشأ من الحزن العميق أو من الحاجة النفسية للحفاظ على رابط عاطفي قوي مع الأم الغائبة، لكنه قد يخلق أيضًا تحديات، مثل الشعور بعدم القدرة على تكرار نموذج الأم "المثالية" في الحياة الشخصية، أو مواجهة صعوبة في التصالح مع الجوانب غير المثالية التي قد تكون جزءًا من العلاقة الأصلية معها.

 

بعيدًا عن الموت، يرسم المجتمع للأمهات طريقًا مليئًا بالتضحيات، العذاب، والأحلام غير المتحققة. وهذا، بلا شك، أحد الأسباب الأولى التي تجعلنا نخاف من أن نصبح مثلهن. فالتضحية مرعبة، ولا أحد يريد رحلة تأخذ منه كل شيء، ليجد نفسه وحيدًا في المنزل، يشاهد التلفزيون، يطبخ، وينتظر عودة الأبناء من العمل. غالبًا ما نخشى أن نصبح امتدادًا لأمهاتنا، لا كيانات مستقلة. وأحيانًا، لا يقتصر خوفنا على تكرار مصائرهن، بل يمتد ليشمل ميراث العائلة بأكمله: صدمات متوارثة قد نعيد توزيعها على أطفالنا أو نرسّخها في علاقاتنا.

 

وأحيانًا، يمكن أن يكون الخوف من أن نصبح مثل أمهاتنا شكلًا من الحب. الشفاء هنا يعني أننا تقبلنا أمهاتنا إلى حد تفهُّمنا لما مررن به، واستوعبنا كيف وصلن إلى ما وصلن إليه، حتى خفنا أن نكرر مصيرهن. إنه شكل من الحرص على ما ورثناه، خشية أن نثقله بمزيد من التضحيات والعذاب والمشقات. ربما كان سعينا لإكمال رحلة أمهاتنا دون هذه الأعباء حبًا حقيقيًا لا ندركه، يغيب عن بالنا وسط مخاوفنا. مع ذلك، لا أتحدث هنا عن علاقات مع أمهات معنفات أو مستغلات، لأن الشفاء في هذه الحالة يختلف، والرحلة تصبح أكثر تعقيدًا.

 

حلمتُ بأمي مؤخرًا، والأحلام اليوم هي وسيلتي الوحيدة للتواصل معها. رأيتها جالسة على الأريكة، شعرها مبلل، مضفرًا في جدولتين، وتضع قبعة شتوية. لم يكن الحلم يحمل معنى خاصًا، بل كان مجرد تذكير بروتينها الليلي بعد الاستحمام. كانت أمي تستحم قبل النوم، تضفر شعرها، وترتدي قبعة. تفاصيل كهذه لم أنتبه لها إلا بعد رحيلها، ولم أحللها إلا بعد غيابها. مثلًا، اعتادت وضع القبعة بعد الاستحمام لأنها كانت تؤمن بأن جدتي – والدة والدي – أصيبت بجلطة بسبب تعرضها للهواء بعد الاستحمام. كل هذه تفاصيل حللتها بعد موت أمي، لكن قبل موتها، لم أرد يومًا أن أكون مثلها.

 

أنا لا أشبه أمي. أقود سيارتي إلى السوبر ماركت بعد يوم عمل طويل، أتبضّع، وأطهو بالكاد. أستحم ليلًا مثلها، لكنني لا أرتدي قبعة شتوية، ولا أضفر شعري في جدولتين، فشعري قصير لا يشبه شعرها. بعد موتها، اكتشفت أن ورق العنب الذي كانت تحضّره هو الأفضل في العالم، وحزنت لأنني ربما لم أقدّر هذا الإنجاز يومًا، وربما لم أعتبره إنجازًا أصلاً، بل تفصيلًا صغيرًا لم ألتفت إليه. بعد وفاتها، وجدت على هاتفي تسجيلًا صوتيًا تشرح فيه كيف تحضّر ورق العنب. ومنذ ذلك الحين، أخشى أن أتبع خطواتها ولا أصل إلى النتيجة ذاتها وأعدّ ورق عنب مثلما كانت هي تعدّه.

 

مدونتنا