كيف تتقاطع قوانين الأحوال الشخصية في المنطقة العربية على قمع النساء؟
تتقاطع قوانين الأحوال الشخصية في دول المنطقة العربية بسمات عدة، لأنّ معظمها تستند إلى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريعات الناظمة لشؤون الأسر. بعض الدول تُعدّ أكثر تقدمًا في مجال الاجتهاد، بينما تتلكأ أخرى عن تحديث قوانينها، ولو بلغ عمر نُسخها الأولى مئات السنين، رغم كل التغييرات الجذرية التي طرأت على أنظمة الحكم.
وفي كلتا الحالتين، النتيجة واحدة: المرأة العربية داخل الأسرة لا تتساوى مع الرجل، والقوانين الأسرية لا تعترف بها ككائن مستقل، من لحظة ولادتها حتّى موتها.
وعليه، قد تعيش إمرأة عربية حياةً كاملةَ منزوعة الولاية عن ذاتها، وعن أبنائها، بحكم قوانين تنظر إليها كقاصرة عن تدبر شؤون جوهرية في حياتها، مهما بلغت واكتسبت واستقلّت.
التنصل من سيداو؟
في قراءة لتقاطعية قوانين الأسر العربية، نجد أن الركيزة الجامعة لدول منطقتنا، هو توقيع كل منها - باستثناء الصومال والسودان – في فترات زمنية متعاقبة، على "إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" (سيداو)، وهي معاهدة دولية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979، ودخلت حيز التنفيذ عام 1981.
لكن التوقيع بدا شكليًا فحسب، لأن الدول العربية - مع استثناءات قليلة مثل تونس - ألغمت توقيعها بالتحفظ على جوهر الاتفاقية في المادة 16، المتعلقة بشروط المساواة داخل الأسرة.
ومنذ توقيعها، دعت "سيداو" في المادة 16 اتخاذ الدول الأطراف تدابير القضاء على التمييز ضد المرأة، في شؤون الزواج والعلاقات الأسرية، وحددت مبادئ المساواة بين الجنسين، بمسائل عديدة، أبرزها:
- الحقوق والمسؤوليات نفسها في عقد الزواج وفي حال فسخه، وحرية اختيار الزوج، وعدم عقد الزواج دون رضى الطرفين.
- الحقوق والمسؤوليات نفسها تجاه أبنائهما، بغض النظر عن حالتهما الزوجية، وتكون مصلحة الأطفال راجحة بجميع الأحوال.
- الحقوق والمسؤوليات نفسها بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال.
- الحقوق الشخصية نفسها باختيار اسم الأسرة والمهنة ونوع العمل.
- الحقوق نفسها لكلا الزوجين بشؤون الملكية وحيازة الممتلكات وإدارتها والتمتع بها والتصرف بها، سواء بلا مقابل أو مقابل عوض.
- اتخاذ الإجراءات الضرورية والتشريعية، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمى أمرًا إلزاميًا.
ولدى التدقيق في المصطلحات، نجد أن البنود تحدد آلية عملية لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، داخل الأسرة كأصغر وحدة مجمتعية.
لكن الدول العربية التي تنتهج المواربة الاصطلاحية بالنصوص والقوانين، تنصلت سريعًا من مادة صريحةٍ لهذا الحدّ، واستندت أغلب سلطاتها لحجةٍ تضيق بها أفق السجال، وهو أن قوانينها الأسرية منبثقة من الشريعة، والتي تسمو برأيها على كل القوانين والشرائع والاتفاقيات الدولية.
والمفارقة هنا، أن الشريعة الواحدة، وعلى اختلاف مذاهبها، أفرزت تباينات كثيرة بالقوانين؛ وتاليًا، أضحت النساء العربيات، عرضةً لدرجات متفاوتة من التمييز والمظلومية، بين بلدٍ وآخر، وأحيانًا ضمن البلد الواحد.
تقاطعات القمع
وفي حديثٍ مع "نقطة"، أوضحت المحامية والباحثة والناشطة الحقوقية منار زعيتر، بعض الاختلافات والقواسم المشتركة بالقوانين الأسرية.
وإضافة إلى إشكالية "سيداو"، تُذكّر زعيتر أن المشترك الرئيسي بين دول المنطقة، توقيعها على اتفاقية "حقوق الطفل" الصادرة عن الأمم المتحددة عام 1989، وأول بنودها تحديد الفئة العمرية للطفل، وهو كل شخص يقل عمره عن 18 عامًا.
لكن جميع الدول العربية، تسمح بتزويج الأطفال والطفلات ما دون الـ 18 عامًا. باستثناء بعض الدول كالجزائر والأردن ومصر، حددوا سن الزواج 18، بينما تركوا مجالًا للإلتفاف القانوني، كالسماح للقضاة إبرام عقود تحت هذا السنّ في حالات وصفتها بـ"الاستثنائية" أو لدى التحقق من رضى الطرفين.
المشترك الثاني، تعطيه زعيتر حول فكرة "الولاية" على الزواج. وقالت إن غالبية دول المنطقة، باستثناء البعض كتونس والجزائر، يعتبرون المرأة غير مؤهلة لابرام عقد الزواج، وتحتاج لموافقة الولي وحضوره. وفي الفقهين السني والجعفري، الأبّ هو الولي، حتى لو كانت المرأة راشدة.
والمشترك الثالث، وفق الباحثة، أن دول المنطقة جعلت المرأة غير متساوية بعقود الزواج بالحقوق والمسؤوليات، وبعضها كانت أكثر اجحافًا، وجميعها لا تعترف بالنساء كربّات للأسرة. فمثلًا، معظم القوانين تعطي الرجل حق تحديد المسكن، وإذا رفضت المرأة إلتحاق به تكون "زوجة ناشز".
وتلحظ عقود الزواج بالمنطقة حقوق النساء على مستويات محدودة كالنفقة والمسكن وحسن المعاشرة وحضانة الأطفال، بينما توسّع صلاحيات الرجل وحقوقه، بكل ما يندرج تحت خانة طاعته.
المشترك الرابع، يمكن ربطه بإشكالية الطلاق كحق حصري للرجل، وتقر بعض الدول حقّ المخالعة للنساء بعد مسار قضائي طويل، وقد يجردها من كامل حقوقها المادية والمعنوية مقابل نيل المخالعة. وفي دول أخرى لا يتم الطلاق إلا بقرار من القاضي.
في اليمن مثلًا، تُعدّ المرأة ملكيّة خاصة للرجل، وبامكانه إرجاع زوجته بعد تطليقها دون رضاها أو رضاء أولياءها.
المشترك الخامس، تعطيه زعيتر حول استنسابية كل دول المنطقة بتحديد سن الحضانة بعد الانفصال، واعتماد معيار عمري للإناث والذكور، دون أن تلحظ مصلحة الطفل الفضلى.
حتى في حالة غياب الأب، لا تعتبر الأمّ وليّة شرعية ولو كان الطفل بحضانتها، باستثناء دول قليلة مثل تونس، تعتبر الأم وليّة ولديها ولاية مشتركة على أولادها بوجود الأب.
المشترك السادس، تجيز دول المنطقة تعدد الزوجات، وإن بشروط متفاوتة، باستثناء تونس التي تمنع تعدد الزوجات. علمًا أن الأخيرة التي يعد دستورها أكثرعلمانية، لا تعتمد قانونًا مدنيًا، بل اسندت إلى اجتهادات وقراءات متقدمة للشريعة.
الاجحاف والمواجهة
وإذا لجأنا لمقاربة براغماتية، على قاعدة بدء الإصلاح من الداخل، قبل الشروع بالمواجهة المباشرة والمطالبة بقوانين مدنية موحدة للأحوال الشخصية، تتساءل زعيتر: لماذا بعض الدول العربية تحرز تقدمًا بقراءة الفقه فيما دول أخرى تطبق أبواب الاجتهاد متمسكة بقوانين وضعية منصوصة منذ عقود طويلة؟
تعتقد شريحة واسعة من الخبراء القانونيين، أن مكمن العلة بمصدر القوانين الأسرية. ومهما بلغ تحديثها برأيهم، لن تنتزع المرأة عبرها حق الاعتراف بوجودها متساوية مع الرجل، طالما أن نصّ الشريعة أجاز مفهوم قوامة الرجل على المرأة.
وهكذا، تمعن السلطات منطقتنا بانتهاك حقوق النساء، في سلة واحدة من القوانين والاتفاقيات التي تنسف بعضها بعضًا. فمثلًا، أقرت بعض الدول العربية قوانين للحماية من العنف الأسري (مليئة بالثغرات)، بينما تسمح بتزويج الطفلات وتجيز للرجل إرجاع زوجته إلى "بيت الطاعة"...
توازيًا، ثمة دول عربية تبدو قوانينها الأسرية أشد تعقيدًا، وفي طليعتها فلسطين ولبنان.
من جهة، تعاني المرأة الفلسطينية من تعددية قوانين الأحوال الشخصية المتبعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتشكل موروثًا من القوانين العثمانية والانتداب البريطاني، ومن القوانين الأردنية والمصرية. علمًا أن فلسطين تطبق القوانين القديمة، وليس القوانين المحدثة في مصر والأردن، وتتجلى فيها كل المظاهر التمييزية، في سن الزواج وحقوق الزوجين والطلاق والميراث.
ومن جهة أخرى، يعد لبنان الأكثر تأخرًا، ويشكو من أزمة متشعبة - تضاف إلى تشابهه مع دول المنطقة - وهي بتخلي الدولة عن واجباتها، وممارستها الحياد السلبي، لأن الدستور منحى الطوائف سلطة استثنائية بإدارة شؤونها، فأضحى هذا البلد الصغير أمام نحو 15 قانونًا للأحوال للشخصية.
ورغم أن قوانين دول المنطقة دينية، تنفذها محاكم مدنية. أما لبنان، فلديه محاكم دينية وقضاة دينيون. علاوة على ذلك، فإن المحاكم الروحية المسيحية هي خارج النظام القضائي اللبناني وتتبع مباشرة لروما، أما المحاكم الدينية الإسلامية، فتتبع لمجلس الوزراء، إداريًا وماليًا فحسب.
استبداد سياسي
وفي لمحةٍ سريعة، نجد أن ما ذكر أعلاه، يضمر استبدادًا عميقًا بحق النساء في منطقتنا، وأن كل أدواته مضبوطة سياسيًا وثقافيًا ومجتمعيًا .
وهنا، تدعو منار زعيتر لضرورة الربط بين اصلاح قوانين الأحوال الشخصية، كمعبر إلزامي لمناهضة العنف الأسري والمجتمعي، وتاليًا، توفير بيئة حاضنة لمشاركة النساء بالحياة السياسية وصناعة القرارات. وتذّكر أن "كل كائن بشري مقموع داخل منزله، لن يكون حرًا خارجه".