حين أردتُ أن أصبح كاتبة واكتشفتُ أنّي لا أملك المال
أحاول تذكّر أول مرة أدركت فيها أن استقلالي الماديّ يساوي الحرية، لا أستطيع تحديد اللحظة تماماً، لكن كلما فكرت بأهمية الاستقلال الماديّ لامرأة قررت صناعة حياة مختلفة، تخطر لي عبارة فرجينيا وولف: "إذا أرادتْ المرأة أن تكتب الأدب فيجب أن تكون لها غرفة تخصّها وحدها وبعض المال". أعتقد أن هذه العبارة هي التي أوقظت داخلي أهمية الاستقلال المالي أو ربما جاءت في حينها تأكيداً لفكرة في طور التبلور. أريد أن أصبح كاتبة، قلتُ لنفسي، لكن حسناً يبدو أن الحياة ليست بهذه السهولة، كيف سأكون كاتبة إن لم أملك المال، وكيف يمكن لكاتبة مبتدئة أن تحصل على المال؟ في عالم يعاني فيه الكتّاب من حولي ليتمكنوا من العيش بكرامة!
ما أذكره جيداً أنني لطالما أردت أن أكون كاتبة، ولأجل ذلك حاولت ألا أستنزف نفسي في مهنة لا تشبهني، إذ كنت أعلم أنك لا تستطيع المراوغة مع الكتابة، فهي تريدك كلك، لا تقبل بنصفك أو بعضك، ولهذا تأخرتُ حتى دخلت عملاً ثابتاً، محاولة إيجاد دخل من الشيء الذي أحبه، لأن هدفي كان الكتابة، لا العمل. لم يكن في محيطي قبل عشر سنوات أحدٌ يخبرني كيف يمكن لفتاة تكتب الشعر أن تحصل على المال، بل على العكس كانوا يخبرونني أن الشعر لن يطعمني الخبز؟ تأخرت في فهم لعبة الاستقلال المادي الخاص بي. وما رأيته في طفولتي ومراهقتي من حولي هو نصف استقلال مادي، بمعنى أنه وبسبب الوضع الاقتصادي العام للبلاد، وبسبب طريقة تنشئة الفتيات المالية، لا تستطيع المرأة الاستقلال بشكل كامل، ويجب أن تبقى متكلة في جزء من حياتها المادية على العائلة أو الزوج، هنا أدركت أنه يجب أن أخرج عن المسار العام من حولي للحصول على المال، فرفضت التقدم إلى أعمال يجدها من حولي جيدة وقررت بشكل قاطع ألّا أعمل في مجال الوظائف الحكومية لأني كنت أدرك أنها ستكون مقبرة حريتي وكتابتي، وبدأت البحث عن عمل قريب إلى الكتابة، أستمتع به وأجني المال، وهكذا أبقى قريبة من الكتابة.
أدركت أنني يجب أن استخدم نقاط قوتي لأحصل على عمل جيد دون البحث عن وسائل خارجية، بمعنى سألت نفسي ما الذي أجيد وأحب فعله في الحياة؟ وكان جوابي شديد الوضوح "الكتابة"، إذاً يجب أن أعمل في الكتابة، وهكذا بدأت شيئاً فشيئاً أعمل في الصحافة، التي لم أدرسها لكنني تعلمتها وطوّرت نفسي بها. المشكلة في جعل الكتابة مصدر دخل أنها مسألة صعبة بعض الشيء وتحتاج الكثير من الصبر والتجربة، إذ يعاني الصحافيون في المنطقة العربية، حيث لا فرص عمل كافية ولا أجور جيدة، من جهة أخرى لم يكن سهلاً على الامرأة الكاتبة التي يدور في عقلها عشرات المشاريع والمخطوطات غير المكتملة أن تتقبل فكرة ترك هذه المخطوطات جانباً والعمل لتعيش، خلق توازن بين الكتابة والصحافة لم يكن سهلاً ومازال صعباً إلى الآن، أسمع بشكل دائم عن كتّاب وشعراء التهمتهم الصحافة، وهذا هو التحدي الذي أقف أمامه اليوم، أعلم أني في العمق كاتبة، والصحافة ليست هويتي إنما عملي وهذا ليس انتقاصاً من المهنة، بالعكس أجدها أكثر المهن نبلاً، اكتشفت مع الصحافة كاتبة أخرى لكن أعلم أن الكتابة والشعر هما الأصل والصحافة نتجت عنهما، هذا في حالتي والتي قد لا تنطبق على من يعملون في مجالي. من جهة أخرى لم يمنحني الانهيار الاقتصادي في سوريا، كما كل الشباب السوري، الفرصة للوقوف على قدمي، ما زاد التحدي أمامي.
بعيداً عن الطرق والجهد الذي بذلته للاستقلال المادي، أريد الحديث عن المال وحرية المرأة بشكل خاص، المال كمصدر لحياة كريمة وكوسيلة لتخفيف السلطة المجتمعية، فالمال قوة في مجتمع تحكمه المظاهر، لا أقصد مظاهر اللباس والحياة إنما المكانة المالية ذاتها، فكلما كنتِ مستقلة مادية هذا يعني قوّة أكبر، امرأة مستقلة مادياً تصبح أقوى في نظر المجتمع وهذا بطبيعة الحال يخفف من محاولة محاكمتها، بما أنه ومنذ ولادة الفتاة ينظر لها كعبء، والاستقلال المادي يعني أنها سيدة نفسها، متحكمة بمصيرها، وأنها ليست عبئاً كما كان يظن المجتمع.
تقوم تنشئة الأبناء المالية، على تحميل الرجل العبء المادي للعائلة وهو ما يخلق بطبيعة الحال مبادئ ليست مكتوبة لكنها منتشرة، أكثرها رسوخاً، منها أن لا أهمية للمال في حياة الفتاة كما الرجل، وحتى لو اشتغلت أو امتلكت عملاً خاصاً بها، فلديها الفرصة للتخلي عن العمل والجلوس في المنزل على عكس الرجل، والذي لا فرصة أمامه للتوقف عن العمل، وهذا ما يحدث للعديد من الفتيات بعد زواجهن وانجابهن الأطفال، ببساطة وكما يقال "الرجل يبقى مسؤول عن عائلة" لكني لم أسمع يوماً من حولي يقولون: "إنها امرأة مسؤولة عن عائلة ولا يمكنها الجلوس من دون عمل"، إلا في حالات نادرة تتعلق بفقدان المعيل الرجل.
تتحدث وولف في كتابها "غرفة تخص المرء وحده"، عن نقطة مهمة: لو أن النساء من حولها مُنحن من عائلاتهن نفس الأموال التي منحت للرجال سواء كأرث أو كمساعدات لإكمال الدراسة لكان باستطاعة النساء فعل ما يفعله الرجال تماماً، في ذلك الوقت، من تحصيل علمي وعشاءات فاخرة وما إلى هنالك. وهنا توضيح لأحد أسباب قلة النساء مِمَن حصلن على تحصيل علمي عالي على مر التاريخ ، في نفس الدائرة تسخر ووالف مِما فعلته أماتهن لهن وماذا تركن لهن من إرث، وولف أذكى من أن تقصد فقط الإرث المادي، إنها تتحدث عن مفهوم أوسع، وهو سؤال يتعلق بما تركته لنا أمهاتنا من أفكار تتعلق بأهمية الاستقلال المادي وصنع مستقبل يرتكز على ما نجنيه كفتيات وكيف نخطط لمستقبلنا المادي بناء على فهمنا لمدى تأثيره في مسيرة حياتنا وحريتنا أو عائلاتنا أو أهدافنا.
ببساطة إننا نعيش في عصر مليء بالانهيارات، يلعب فيه المال دوراً أساسياً، في تحقيق الحرية والنجاح والأهداف الشخصية، ويجب الاعتراف بذلك، لكن وفي بلدان محكومة بالكوارث والأزمات الاقتصادية، تصبح حرية النساء وأهدافهن للمدى الطويل عملاً شاقاً وتحدياً قد لا ينجحن فيه دوماً. ربما نجحتُ في مكان ما في الحفاظ على ما أؤمن به، رغم كل ما مررت به، وهو ما أعلم أنه لن يتحول إلى أمر سهل مع الوقت، لذلك تجربتي ليست مسطرة نجاح للفتيات اللواتي يردن أن يصبحن كاتبات أو النساء اللواتي يردن صنع مستقبلهن بأيديهن، إنما هي محاولة مازالت مستمرة، لبناء عالمي ولصنع المرأة التي أريدها، لا تلك التي من المتوقع أن تكون.