NO2TA Logo NO2TA Logo
الاقتصاد النسوي.. عودة إلى جذر العدالة 

الاقتصاد النسوي.. عودة إلى جذر العدالة 

يتلقّى الطباخون وعمال رعاية الأطفال والمسنون وعمال التنظيف أجوراً مقابل تعبهم ووقتهم. هذه الخدمات مصنفة عالمياً على أنها عمل له قيمة أو أجر يدخل من ضمن الناتج المحلي الإجمالي، ويترتب على هذه الخدمات حقوق وواجبات. لماذا إذن يصبح الجهد والوقت الذي تقدّمه النساء لقاء هذه الخدمات في منازلها بلا قيمة وخارج المؤشرات الاقتصادية الأساسية؟ 
أكثر من ملياري امرأة يقمن بالأعمال المنزلية مجاناً، لا بل لا يتم الاعتراف بجهدهن باعتباره "عملاً إنتاجياً"، على الرغم من أن قيمة أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، التي تقوم بها غالباً النساء حول العالم، تصل إلى 11 تريليون دولار، وفقاً لمنظمة العمل الدولية. 
هذه النقطة تشرحها الاقتصادية الكندية مارغريت ريد ببساطة شديدة في كتابها "اقتصاديات الإنتاج المنزلي" الذي نشر عام 1934، قائلة إنه "إذا كان النشاط له طابع يمكن تفويضه إلى عامل بأجر، فإن هذا النشاط يعتبر إنتاجياً".

والإقصاء الذي تعتمده أدوات التحليل الاقتصادي التقليدي التي تدور غالباً حول نشاط الرجال، يطاول اللواتي تفرغن طوعاً للعمل المنزلي أو غصباً، في آن. سلام، وهي شخصية وهمية تمثل ملايين النساء، تتلقى راتباً مقابل عملها لمدة ثماني ساعات، أقل من راتب زميلها بسبب التمييز الوظيفي. 
قبل ذهابها إلى العمل تهتمّ سلام بأطفالها وتحضرهم للمدرسة، وبعد وظيفتها تصل إلى البيت عند الساعة الخامسة ظهراً، ومن ثم تقوم بالأعمال التالية المجانية: الاهتمام بالأطفال، الطبخ، الترتيبات المنزلية، بما يوازي نصف الوقت الذي قضته في عملها المدفوع وأحياناً أكثر. 
أكثر من 12 ساعة من العمل المدفوع وغير المدفوع تقوم به سلام يومياً، لتضيق أمامها فرصة التطوير المهني والتعليمي وصولاً إلى تناقص النشاط الترفيهي وزيادة الضغط النفسي والعصبي، ما يؤثر بالتالي على أدائها في سوق العمل، وهو ما دفعها للعمل نصف دوام، فانخفضت مساهمتها في دورة الاقتصاد التي تقوم أساساً على تهميشها. 
المفارقة أن الدراسات بغالبيتها لا تتطرق إلى تفصيل انعكاس العمل المنزلي غير المدفوع على مساواة سلام مع أقرانها الرجال، وقلما تتوافر الحملات والسياسات التي تدعم تحقيق هذه المساواة للوصول إلى وقت متوازن بين الجنسين في العمل المنزلي يتيح للنساء مساحة زمنية موازية لتطوير أنفسهن وتحقيق طموحاتهن.

هذا التفصيل يعتبر الخيط الذي يفصل الأدوات الإحصائية والبحثية عن الكشف عن جذر اللامساواة والتمييز ضد النساء. إذ أن الاقصاء من منهجيات التحليل والإحصاء، وكذا من السياسات الاقتصادية العامة يرتبط بمصادر القوة في المؤسسات والسلطات القائمة.

الإضاءة على المفاهيم والممارسات التمييزية المذكورة أعلاه، هي واحدة من بين عشرات المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد النسوي. تفكيك بنية الاقتصادات، التمحيص بكل القيم التي يعتبرها البعض بديهية، وصولاً إلى الغوص في أرضية اللاعدالة التي تنتهي بإقصاء النساء، تهميشهن، وحرمانهن من الكثير من المزايا والحقوق، فيما تهيمن الذكورية على المناهج الاقتصادية والإحصائية والنظرية وصولاً إلى ميدان الإنتاج. 

عملياً، يكشف الاقتصاد النسوي بعض ما تخفيه الدورات الاقتصادية العالمية. يشرح كيف أن الاقتصاد يختلف في انعكاسات مؤشراته على المجتمعات باختلاف الجنس، وليس فقط الوضع الاجتماعي أو الإثني مثلاً. فالعلاقات بين الجنسين والهوة بينهما، هي نواة التفاعلات الأسرية والمؤسساتية في سياق تطور الاقتصادات وتغيّرها. 

يقول البنك الدولي إن الفجوة في الدخل الإجمالي المتوقع مدى الحياة بين الرجال والنساء تبلغ 172 تريليون دولار، أي ما يعادل ضعفي إجمالي الناتج المحلي السنوي في العالم. فيما تبين دراسة منظمة العمل الدولية في العام 2019 تحت عنوان "أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر وسوق العمل" أن النساء لديهن فرص غير متكافئة للدخول إلى سوق العمل بسبب مقدار الوقت غير المتناسب الذي يقضينه في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر. 
وبحسب الدراسة لا يوجد أي بلد يقوم فيه الرجال والنساء بنصيب متساو من أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر. ونتيجة لذلك، تتسع الفجوة بين الجنسين حيث تعاني النساء باستمرار من ضيق الوقت، مما يحد من مشاركتهن في سوق العمل.

ويبلغ متوسط الوقت المخصص لأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر للنساء على المستوى العالمي 4 ساعات و37 دقيقة في اليوم، أو 19.7% من اليوم (هذا الوقت يمتد إلى ساعات أطول بكثير بحسب اختلاف الحالات). أما لدى الرجال فيصل متوسط الوقت إلى ساعة و51 دقيقة، أو ما يوازي 7.7% من اليوم الكامل، ما يكشف فداحة أزمة التمييز والظلم اللاحق بالنساء. 
إلا أنه حتى أرقام هذه الدراسة ليست محدثة، بعضها يعود إلى إحصائيات قديمة، مع غياب التناسق في تصنيف العمل غير المأجور فيما بين الدول، والسبب في ذلك هو تقلص تواجد النساء في الرقم الإحصائي العام وضعف المسوحات العامة حول العمل غير المأجور، خاصة فيما يتعلق بقياسات الوقت الإنتاجي الذي يدخل ضمنه العمل المنزلي. 
يبحث الاقتصاد النسوي قلة الأرقام والبيانات الاقتصادية المرتبطة بالنساء، في مقارنة مع المؤشرات التي تقيس إنتاجية الرجال وتأثرهم بالتغييرات الاقتصادية. يقوم الاقتصاد النسوي على الخروج من الإحصاءات الكلاسيكية التي ترتكز على الأرقام المتوافرة لقياس الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، إذ أن النقص في الأرقام المرتبطة بالنساء يؤسس لاستكمال حلقة الإقصاء، ما يستدعي اللجوء أكثر إلى الدراسات الميدانية إلى المقابلات المعمقة إلى الاهتمام بمنهجية البحث وإلى من يتوجه ومن يقوم به.

وبحسب تقرير "المرأة وأنشطة الاعمال والقانون 2022" الصادر عن البنك الدولي، نحو 2.4 مليار امرأة في سن العمل لا تتاح لهن فرص اقتصادية متساوية، ويضع 178 بلدا حواجز قانونية تحول دون مشاركتهن الاقتصادية الكاملة. هذه الأرقام تعزز أهمية الاقتصاد النسوي الذي يعتقد أنه على السياسات الاقتصادية أن تكون منصفة وعادلة جندرياً. فالإنتاج المنزلي يجب أن يدخل من ضمن مؤشرات الدورة الاقتصادية، وعلى هذه الأخيرة ألا تقصي النساء من المنافع، بحيث يتم تخصيصهن في مدفوعات المال العام، وتوفير الحماية الصحية لهن وتقدير عملهن ورفعه من قائمة الأعمال المجانية إلى العمل الإنتاجي، والاعتراف بمحورية دور النساء في تطور الاقتصادات.

من ناحية أخرى، أكثر ما يشغل المناهج التحليلية والدراسات والسياسات الاقتصادية العامة هو التوزيع العادل للثروات. دورة الاقتصاد كلها تقوم على قياس هذا التوزيع، اهتمامات الاقتصاديين، النظريات الاقتصادية، السياسات الحكومية، وصولاً إلى برامج المرشحين في أصغر نقابة مؤسساتية إلى مجالس النواب في أكبر دول العالم. 
الكل يريد أن يصل إلى استنتاجات حول العدالة التوزيعية في الأسر والشركات وبحسب الطبقة واللون، والوضع الثقافي، والمعيشي، وغيره. والمساواة بين الجنسين هي نقطة الربط بين كل هذه المفاهيم وغالباً تكون منبت الظلم والتمييز فيها.  
من هذا المنطلق، الاقتصاد النسوي يبحث عن الجذر، عن نواة اللاعدالة في المجتمعات، فيما البيانات والإحصاءات التي تراقب نشاط الرجال في الاقتصاد للخروج بالأرقام والاستنتاجات والمؤشرات، من الصعب أن تلاحظ فجوة المساواة بين الجنسين، أو تدعو لسياسات تخفف من وطأتها. 
مثلاً، إذا أردنا ان نحصي ما هو موجود داخل غرفة، علينا أن نحصي ما هو موجود داخل الغرفة وضمناً الغرفة ذاتها التي تجمع كل ما هو في داخلها. الفكرة منطقية تماماً، وتتوافق مع أي فكر إحصائي أو بحثي. إلا أن مناهج البحث والإحصاء، وكذا قياسات المؤشرات الاقتصادية، وفوقهم الاقتصاديون والسياسيون والقادة، غالباً يشيحون نظرهم عن هذا المبدأ المنطقي حين الحديث عن قيمة العمل التي تنتجها النساء في العالم. 
في النهاية، الاقتصاد النسوي لا يعني أن تحكم النساء الاقتصادات العالمية (وإن كان ذلك سيكون غاية في الحلاوة)، ولكن ببساطة هو اقتصاد يؤسس للعدالة ووقف الإقصاء والتمييز تجاه أكثر من 49.5% من سكان هذه المعمورة، ويقلص التفاوتات الاجتماعية التي تعدّ النساء أكثر المتضررات منها.

مقالاتنا