NO2TA Logo NO2TA Logo

"الإستقلال… نصيحة لا يمكن تقديمها للجميع"

في الفيديو الأخير من "طالعة نازلة"، ناقشنا معنى أن نكون مستقلات. أتى هذا الفيديو مع مسؤولية كبيرة والسبب أنّ مفهوم الاستقلال يأتي معه الاعتراف بالامتيازات ونحن كبشر لم نكبر يوماً لنكون متساويين ومتساويات بالامتيازات. عندما نتحدّث عن الاستقلالية، نحن نفكر بالخروج من بيت العائلة، نفكر بالزواج، نفكر بأدوارنا الموروثة كنساء، ونفكر بالدين والمال والسلطة والقانون. قد تكون الإستقلالية والانفصال الفعلي أو حتى المجازي عن العائلة هما نصيحة لا يمكن تقديمها للجميع. تروي لنا فتيات عن تعرضّهن للتعنيف والظلم من قبل العائلة، ولا يمكننا سوى أن نطلب منهنّ الهروب، ومع هذا تأتي نصيحة الهروب في مكان علّمنا أن نطيع العائلة مهما حصل وأنّ لا وجود للأمان سوى في المنزل، صعبةُ جدًّا.

ارتبطت فكرة الاستقلالية عن العائلة بالمجتمعات الغربية وهي المجتمعات التي تركّز على الفرد كفرد ولا تركز على المجموعة أو القبيلة أو العائلة. و المجموعة هي فكرة متأصلّة في حضارتنا هنا، وأن نتكلم عن الاستقلالية يعني أن ننسف هذه الفكرة التي بنت المجتمع وجعلته كما هو اليوم، يعني أن نشجع على تلك المفاهيم التي أُلصقت بالغرب كي نخاف منها، رغم أنّها أحياناً هي ما نحن بحاجة إليه. العائلة هي السند الأول بطبيعة الأحوال، ولا يمكن أن ننكر هذا كثيراً أو أن نحارب لنبرهن عكسه، لكن أن تكون في عائلة هي السند هو امتياز، وأن تتمكن من الاستقلال عن عائلة لم تكن يوماً سنداً هو أيضاً امتياز، وتبقى النساء اللواتي لا يمكنهنّ فعل شيء سوى الاستماع لفلسفات عن الغرب والشرق هنّ الضحايا. 

لم يكن سهلاً عليّ أن أستقل عن عائلتي، فالامتياز الأول الذي حصلت عليه هو أنّ عائلتي لم تتمكن من أن تعيلني مادياَ (وهذا عكس الامتياز لكنّه امتياز). كان عليّ أولاً وقبل كل شيء أن أستقل مادياً وليست رغبةً منّي إنما فرضاً عليّ كي أعيش. ومن تجربتي البسيطة اكتشفت أنّ الاستقلال المادي هو أول ما يُمكّننا أن ننفصل. فلا استقلال كلّي من دون استقلال مادي، لأن المال هو السلطة الأولى، وعلينا أن نكون سلطة أنفسنا من خلال المال. الانفصال عن الأهل ليس بضرورة، أن نساعد عائلتنا ونشكي لها ونزورها هي أمور يمكن أن نفعلها وليست أمور مرتبطة بالاستقلالية. لكن هنا أعود لنقطة "الغرب"، لم أستطع يوماً أن ألعب الدور التقليدي للنساء هنا، وليس كرهًا له، فأنا ببساطة لا يمكنني… فأنا أخاف من الزواج والإنجاب ومع هذا أريد أن أعيش مثل أي رجل، أن أسافر وأعيش وحدي وأحبّ وأفعل الأمور التي أحبها وأشتري الأغراض التي أرغب بها. كان يمكنني أن أبقى في منزل عائلتي، لكن شيئاً ما دفعني لأغادر. لربما هو علاقة والديّ التوكسيك أو ربما رغبتي في أن أجرب المسؤولية التي تقع عليّ حينما أكون وحيدة. 

انتقلت من منزل أهلي عندما إجتاح فيروس "كورونا" العالم، وفي الأيام العشرة الأولى، كذبت عليهم وقلت أنّني في تصوير لمشروع وعلقنا في مكان التصوير. لا أعلم ما السبب، لماذا انتقلت أو لماذا كذبت أو ما الرغبة من انتقالي. لم أنتقل مع شريك أبداً ولم أنتقل لأنّ هناك مسافة بعيدة بين المنزل والعمل، لكن في يوم من الأيام شعرت أنّ هناك ضجة في المنزل وأريد بعض الهدوء. لا بدّ أن أقول أنّ هذا الانتقال أتى معه الكثير من الكآبة والحزن والوحدة، وكنت أذهب لأنام في سريري أربعة أيام في الأسبوع، وفي كلّ مرة كنت أعود للمنزل كانت أمّي تبكي. لم يكن الانفصال عن أمّي سهلاً، فهو صحي أن أقطع الحبل السرّي، لكن ليس سهلاً بالأخص عليها. وعلمت هذا جيداً وتفهمتها مع أنّ هذا التعلق اشعرني بنفور غريب منها. كانت مشاعر غريبة أن أغادر وأن أنفصل ولم تكن تشبه الهروب أبداً. فأنا لم أهرب، لكنّني غادرت فقط. لم يشبه ما جرى الآراء الفلسفية عن الغرب والشرق وأن تكون فرد في مجموعة أو أن تكون مجموعة حتى لو كنت فرداً. كان الشعور بعيداً عن أقاويل مثل "البنت اللي بتستقل عاهرة"، كانت فقط مشاعري المتلخبطة وحدي تحاول أن تشفى وأن تتصالح.

لربما هذه قصة صغيرة عن الرحيل بعيدة عن العائلة المعنّفة أو عن أي فتاة لا يمكنها أن تقنع أهلها أنّها تريد منزلًا لها وحدها كي تطبخ طبقها المفضل في يوم ثلاثاء ممطر. أخيرًا، اعتادت أمّي على فكرة الرحيل، لكنني لم أشتر غسالة، كي أزورها كل أسبوع مع الغسيل. بالطبع، الغسيل ليس الأمر الوحيد الذي يربطني بمنزل عائلتي، وما زال هناك أمورًا أخرى. الجميل في كل هذا أنّني حولت علاقة غضب إلى صداقة. ما عاد أبي يزعجني وما عادت أمّي تغضبني بعلاقتها به. فأنا منفصلة عنهم وهم الآن أصدقاء… أعترف بامتياز أنّ أهلي ليسوا أشرارًا أبداً وأنّهم أعطوني مساحة من الحرية. الحرية امتياز بالطبع لا تعطى للكثير من الفتيات. 

في الفيديو الأخير من طالعة نازلة، ناقشنا معنى أن نكون مستقلات. أتى هذا الفيديو مع مسؤولية كبيرة… اختيار هذا الموضوع أتى بعد أن سمعنا قصص مأساوية لفتيات يتعرضن للتعنيف من عائلتهن. لا يوجد من يعطيهنّ الحل. لا يوجد شرطة ولا يوجد قانون وأحياناً لا يوجد قدرة مادية للهروب أو الاستقلال. ونبقى هنا عاجزات عن تقديم حلّ. لربما الصبر هو الحلّ ولربما الحلّ هو أن يهربن في يوم ثلاثاء ممطر. نحن نتكلم عن استقلالية في مجتمعات لربما تؤمن بأنّ المرأة ستغادر لمنزل رجل قد يكون معنّف. تؤمن أنّ أمان النساء مع الرجال، لا معهنّ… لذا، يأتي هذا الموضوع كواجب لكل فتاة تكبر، كي تعلم أنّ العائلة ليست سجن وأنّه يمكننا المغادرة بدون سبب، ويمكننا الهروب لعدة أسباب. أن نقول أنّ هذا ممكن هو أمر كافٍ لنكسر ما تعلمناه وورثناه. قد لا تكون رغبة جميع الفتيات هي الاستقلال، لكن إن كانت رغبة، لا بدّ أن نطبقها. 

أحياناً من الجميل أن نبني مساحتنا، أن نشتري سريرنا وطاولة صغيرة نجلس عليها. أن نشعر أنّه يمكننا أن نفعل ما تفعله العروس الجديدة، لكن من دون عريس، أن نتمكن أن نشتري لأنفسنا ما نريد شرائه لأطفالنا وأن يصبح أهلنا أصدقاء لنا، لا سلطة علينا. من الجميل أن نقتنع بذلك، لكن من الأجمل لو يقتنعون همّ، الذين لا يريدون منّا سوى أن نكون ملحقات برجل. 



 

مقالاتنا