بين الأعداد والمقاربة: ماذا تعني مشاركة النساء السياسيّة في لبنان؟
ما زلت أذكر وجهها جيدًّا. سحنتها، ابتسامتها الباهتة، شعرها الأشقر وخديّها الملونتَين بالبودرة الزهرية. جيلبيرت زوين كانت المرأة الوحيدة بين ثمانية رجال في اللجنة الفرعية المنبثقة من اللجان النيابية المشتركة الموُكلة درس مشروع قانون “حماية النساء من العنف الأسري” في لبنان. كان اليوم الثاني من شهر آب من العام 2012، وكانت اللجنة المذكورة قد دَعَت الى مؤتمرٍ صحافيٍ حضره عددٌ محدودٌ من الصحافيات للإعلان عن انتهائها من درس مشروع القانون، بعد 39 جلسة متتالية من الأخذ والرد والرفض والإمعان بتشويه روحية القانون نتيجة ضغوطات مراجع سياسية ودينية. حضرتُ في مهمة صحافية، بعد أن زوّدتني جمعية “كفى” التي قادت حملة الضغط والمتابعة على القانون لسنوات بصيغته الأصلية التي طرحتها الجمعية. تَلَا رئيس اللجنة النائب سمير الجسر على الحضور أبرز التعديلات على القانون، والتي كانت فعليًّا تشّوهات ضربت روحية القانون جذريّا. اتضح ان السادة النوّاب ألغوا بند الإغتصاب الزوجي، وضربوا مبدأ تخصيص القانون للنساء فميّعوه ليشمل “كافة أفراد الأسرة”، وشتتوا عددًا من أنواع وأشكال من العنف ضد النساء لم يلحظها قانون العقوبات مثل العنف الاقتصادي والعنف المعنوي.
ما زلت اذكر مداخلة جيلبيرت الوحيدة خلال ساعتي المؤتمر يومها، أدلت بها للتأكيد على إجابة سمير الجسر على سؤال إحدى الصحافيات. كان السؤال عن أسباب ضرب تخصيص القانون للنساء وتعميمه على سائر أفراد العائلة، فأتت إجابة الجسر لتذكرنا بمبدأ المساواة المكرّس في الدستور اللبناني، لتذكره الصحافية بدورها بقوانين الأحوال الشخصية وتمييزها بين المواطنين والمواطنات. وفي هذه اللحظة المفصلية، تدخلت جيلبيرت لتؤكد أن موضوع الأحوال الشخصية “غير”، وأرفقت التأكيد بإيماءة رأس توكيداً.
لم انسَ ابتسامة جيلبيرت منذ ذلك اليوم. يومض وجهها ويحضرني عند كل نقاش يتبنى المقاربة الكوتاوية للمشاركة السياسية للنساء في لبنان. ليست مداخلة جيلبيرت المحدودة لكن الرمزيّة جدا، ولا مساهمتها في مسار تشويه قانون حماية النساء من العنف الأسري، سوى تمظهر لشكل النظام الذي نعيش في كنفه في لبنان؛ والذي ينتج نماذج من الرجال والنساء يمتهنون حمايته والذود عنه عند كل استحقاق.
النساء في هذه البلاد يعشن في ظلّ حكمٍ ذكوريِ، بغض النظر عن جنس حكامّه - لكنهم غالبا رجال. ولذا فإن حضور “العنصر النسائي” في دوائر القرار، والمشاركة النسائية في السياسة ليست نسوية تلقائيّا. لأن ليس كل النساء نسويات ولأن النسوية ليست حكرًا على النساء ولا اختصاص مقرون بهن.
-----
أيّار ٢٠١٩. وفي محاولة منها لإنصاف النساء اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين، طرحت رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية كلودين عون اقتراح لقانون الجنسية تمنح بموجبه الأم الجنسية لابنها القاصر، فيما يمنح الراشد غرين كارد، على أن يتقدم للجنسية بعد خمس سنوات). اذ انه ثمة “هامش من دفع أحد ما الثمن في مكان ما”، حسب تعبيرها.
لم تكن عون الوحيدة التي تقدّمت بهكذا إقتراح . ففي العام ٢٠١١، أصدرت "لجنة المرأة والطفل البرلمانية" برئاسة النائبة جيلبرت زوين اقتراح لتعديل القانون الجنسية، يسمح للأم اللبنانية بمنح جنسيتها، باستثناء المتزوجة من فلسطيني أو من رجل يحمل جنسية دولة لا تُعامل لبنان بالمثل. يُذكر أن اللجنة صاحبة الاقتراح التمييزي العنصري، ضمّت أيضًا النائب ستريدا جعجع.
هذا واقعٌ مريرٌ للأسف. وهو الفضاء الذي نهيم فيه اليوم. حتى ولو بدا هذا الاستذكار وكأنه ملامة للنساء، إلا أنه تذكيرُ قاسٍ وضروري بعدم الخلط بين الهوية الجندرية وحتميّة الأداء السياسي النسوي المرجو لأن النماذج التي تتبوأ مراكز القرار في لبنان، ذكورًا كانوا أم إناثًا، ليسوا سوى مخرجات حتمية للعقل الذكوري الذي بنى الدولة في لبنان.
للمواطنة في لبنان سجلَي اعتراف: السجل الجنسي والسجل المذهبي. ولذا، عمليًّا، لا نجد كتلة مجردة من المواطنين اللبنانيين. وفي حين أن التمايز الطائفي محدد في خانات قانونية ، فإن معظم فروع القانون اللبناني - من قوانين الأحوال الشخصية إلى قانون العمل والعقوبات - مشبّعا بالتمييز على أساس الجنس ومن هنا، يحدّد كل من الجنس والنوع الإجتماعي (الجندر) ممارسات المُواطنة المُتاحة للنساء، وتلك الممنوعة. وما سجلات القيد إلا شواهد على ذلك. فاللبنانيات، مسجلّات في قيد النفوس في دوائر الدولة في خانتين لا ثالث لهما: امّا زوجة او إبنة؛ وبالتالي فالحماية والحقوق للبنانيات هي مكتسبات مُلحقة نتيجة ربطها بذكر. وفي كل ما يتعدى الرابطة العائلية، المرأة اللبنانية غير مرئية؛ محصورة في أداء واجبات أحد هذين الدورين. فلا مكان للنساء في سجلات النفوس سوى كبنات أو زوجات، ف "يُنقلن"، بقلم حبرِ أحمر، الى سجلات أزواجهن و "يُعدن" الى سجلات آبائهن حين يتطلقن.وعليه، ليس صدفة أن يجيب النائب في كتلة المستقبل معين المرعبي الصحافية ليندا مشلب لدى سؤالها عن احتمال احتجاز رئيس الوزراء حينها (2018) سعد الحريري في فندق الريتز في الرياض، بأنه سيأخذها إلى ريتز. كما ليس بصدفة أن يرد النائب أحمد كرامي على المراسلة هدى شديد بعد احدى جولات جلسات الحوار في العام 2015: "ماذا ناقشتم؟"، بـ"ناقشنا جمالك". وليست صدفة أن يسأل وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، في لقاء على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2014 عن “كارولين” بتأشيرة من يده توحي بجمال جسدها، هي التي صادف انها القائمة بأعمال بعثة لبنان في الأمم المتحدة. من المفيد تذكر هذه المواقف لنتذكر أنها ليست صدف أن يحكم البلاد ذكوريين، لا يرون في المرأة اي فعالية سياسية، بل زيادة عدد ومكمّل جمالي.
يستمر سوء فهم الفلسفة النسوية وتسخيفها وتصغيرها من اتجاهٍ سياسي وايديولوجيا ترمي إلى إعادة تخيل علاقات السلطة في المجتمع لصالح الأكثر هشاشة، لتصبح مجرد مطالبةٍ بمناصفة. ويموّه الترويج لخرافة "المرأة عدوة المرأة" وحصر المشكلة بالنساء حقيقة وعمق أزمة النظام اللبناني وعداوته لهنّ.
فالطواقم السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد رسخت وحافظت على البنى الاقتصادية والاجتماعية الإقصائية والاستغلالية التي تمعن في إفقار وتهميش الفقراء والمهمشين اصلا. وبهذا المنطق، فإن اي حكومة يأتي بها هذا الطاقم ساقطة حكما بالمعايير النسوية، وكذلك أي برلمان ينتج عن انتخابات تجرى في ظل هذا النظام.
في لبنان، يختار آباء الطوائف، وفق مصالحهم ورغباتهم، رجالًا من شبكة معارفهم وعائلاتهم الممتدة ليعيّنوهم وزراءً في الحكومات، وليثبتوا بهم شعبية احزابهم عند كل استحقاق انتخابي نيابي. الثابت الوحيد عبر الزمن هو استمرار آباء الطوائف بوظيفة حفظ حدود الطائفة واختيار من يستطيع الانضمام إليها، ومن يُحسب عليها ومن يقع خارجها.
----
لو أردنا توجيه نقدِ نسوي حقيقي للنظام السياسي في لبنان، لبَقي عدد الوزيرات والنائبات والفاعلات في دوائر القرار تفصيلًا. في سياق هذا النقد، يمكن الحديث عن ثلاثية يقوم عليها الهيكل الذكوري اللبناني؛ ثلاثية تؤسس لما تسميه المنظرة سعاد جوزيف مشروع بناء الدولة الذكوري في لبنان، والذي ترسخه وتعيد إنتاجه كل الحكومات والندوات البرلمانية المتعاقبة. هذه الثلاثية هي: الترابطية الذكورية، عقد القرابة، والعائلية السياسية.
تشرح جوزيف مفهوم "العائلية السياسية" ربطا بما تسميه "عقد القرابة". عقد القرابة هو اعتبار العضوية او الانتماء الى العائلة والوفاء لها، سابق للانتماء الى الدولة وأَولى منه، وهو فهم للانتماء السياسي في السياق اللبناني، حيث شكلت العائلة الممتدة لأبنائها وبناتها خلاصاً، وحمايةً وسبيلاً لتحسين المعيشة والحياة، في ظل دولة ضعيفة توالت عليها حروبا لم تستطع حماية رعاياها منها بالقدر الكافي. هذا العقد يؤهل العائلة الممتدة - التي غالبا ما يرأسها ويديرها ذكور - لأن تصبح واحة سيطرة سياسية واجتماعية على حيوات واجساد النساء، ما يشكلّ حاجزا بينهن وبين مواطنيتهن الكاملة.
سيطرة العائلة الممتدة على حيوات واجساد النساء لا ينبع من رغبة غريزية لدى الذكور بالسيطرة على النساء كما قد يسهُل علينا التحليل، إنما من تركيبة للذات مهيمنة في العائلات في المنطقة العربية، تسمّيه جوزيف “الذات الترابطية” التي تمتاز بتركيبة مطاطية ومرنة، ترى نفسها امتدادا للآخرين والأخريات المُقرّبين والمُقرّبات منها - كالأب والأم والأخ والأخت والزوج والزوجة، ولا تحبذ الإستقلالية عنهم. بعكس الذات الفردية الطاغية في المجتمعات الأميركية الشمالية والغرب أوروبية ذات الحدود المحددة والطبيعة التعاقدية، الذات الترابطية ليست ذاتاً مستقلة قائمة بذاتها ومحددّة. الترابطية إذن، هي نمط العلاقات بين الرجال والنساء في العائلات العربية، وإقترانها مع الذكورية والنظام الأبوي يُنتج “ترابطية ذكورية”. تنظّم الترابطية هذه الذوات بحدودها المَرِِنة في هرمية عمرية وجندرية داخل الأُسر، وتنتج ثقافة تثّمن علاقات القرابة، وتعابير ومشاعر وتوّقعات القربى والأخوة في كافة العلاقات - العائلية، الإجتماعية، السياسية وعلاقات السوق. الترابط في هذه الهرمية الأسرّية يجذّر الذكورية ويرسخها. ونتيجة هذا التجّذر في الوسط الأُسري، يُمنح الذكر والأكبر سنّاً، امتياز وحق ادارة حيوات النساء والأصغر سنا، ويُسمح له بدخول حدود ذوات النساء والصغار بهدف التنظيم والإشراف.
تفسّر الترابطية الذكورية وتثمين المجتمع لعلاقات القربى والأخوة سياق نشوء عقد القرابة. كما يشرح عقد القرابة غير المُباح هذا بدوره خروج معظم الأحزاب السياسية من عائلات، وما يستتبع ذلك من انتقال للقيادة السياسية بروابط الدمّ والوراثة من الأب إلى الإبن، وفي الحالات النادرة الى الإبنة التي غالبا ما تملأ الفراغ بعد والدها او اخيها او زوجها بإنتظار وريث.
أما العائلية السياسية، فهي استخدام المواطنين والمواطنات للعلاقات والمؤسسات والممارسات العائلية لتفعيل العلاقة مع الدولة والمطالبة بالحقوق. وهي، في الوقت عينه، نهج من الحكم يستند إلى خرافة “الأخوّة”، وإلى خطاب يعطي الأولوية للعائلة على الفرد - ومن هنا مثلا، ورود العائلة في مقدمة الدستور الأردني على أنها الوحدة التي تتعاطى معها الدولة في لغة الحقوق الواجبات. وعلى هذا الأساس، يستخدم القادة السياسيين في لبنان مفاهيم وممارسات “اخوية” في تعاطيهم مع المواطنين، ويتعاملون مع الدولة على أنها مصدر لموارد يوّزعونها على إخوانهم وجماعاتهم، ويتوّقعون أن يستخدم شركائهم في الحكم سلطتهم ومواردهم لتأمين مصالح جماعتهم واخوانهم. ومن هذا المُنطلق، يمكن فهم لجوء السياسيين في لبنان إلى العائلات، وتحديدا الى افراد "مفاتيح" فيها لتعبئة الناس وتنظيمهم والحرص على رصهّم في صفوف تقترع حسب نموذج "زي ما هي"، ويُساءل عنهم الرجل المفتاح أمام الزعيم.
ومن هذا المُنطلق أيضًا، يمكن فهم النظرة الى الزعيم السياسي على انه فرد من افراد العائلة. كبيرها. بطريركها الفخري. وعليه، واجب العائلة تجاهه هو الولاء والإحترام والخدمة المستحقة له. وهكذا، ينتقل مفهوم “الوفاء والإخلاص” من الحيّز العائلي إلى الحيز السياسي العام، لينتج تعذرا بالمحاسبة والمساءلة.
بناءً على كل ما تقدم، يتبين أن مدخل الحل لأزمة مشاركة النساء السياسية هو نفسه حلّ الطائفية السياسية التي لا ينفك كافة الأقطاب السياسية بالمناداة بها بدون نيّة جدّية بتطبيقها. لا يمكن إلغاء الطائفية السياسية في دوائر القرار اليوم من دون تفكيك الطائفية المجتمعية وارتباطها وتغلغلها في العائلات؛ ومن دون تصحيح علاقات أسرنا بالطوائف وتصويب فهمنا الجماعي للمواطنة؛ ومن دون قانون مدني للأحوال الشخصية. فذكورية المجال السياسي العام نابعة من ذكورية تركيبات اسرنا وعائلاتنا الممتدة، وتصحيح المسار داخل الأسر والمجال العائلي، سينسحب على المجال السياسي والعام ويؤثر مباشرة على مشاركة النساء في صنع القرار، مشاركة أبعد وأعمق من مجرد إكمال للعدد. فقوانين الأحوال الشخصية الطائفية التي تحكم النساء داخل أسرهن وتخضعهن لسلطة رجال العائلة تمنعهن من التقدم كصاحبات قرار. يستحيل تعزيز مشاركة النساء في الحياة السياسية، في وقت يستمر إخضاعها قانونيًّا، لطاعة العائلة وأصحاب السلطة فيها، وتستمر إعادة إنتاج نمط الترابطية الذكورية في المجالات العامة والسياسية.
ومن هنا، فإن القانون المدني للأحوال الشخصية هو الخطوة الأولى الوحيدة التي يمكن التعويل عليها لإشراك النساء في صنع القرار، لأنه الوحيد الذي سيتيح لهن الاشتراك في صنع القرار داخل العائلة، ويخرجهن عن وصاية كبير العائلة، ويجعلهن في موقع مساوٍ له. وحده قانون مدني للأحوال الشخصية يرغم الدولة على الاعتراف بالمرأة اللبنانية كذات مستقلة، بدون الحاجة لأب أو زوج يؤهلها لتصبح مواطنة؛ والوحيد الذي يحرر النساء من قيود القوانين الطائفية التي تتفرّغ لقمعهن.