الرقص والموت المباح
كنت دائما مولعة بالأفلام العربية الكلاسيكية وأذكر في فترة حياتي الأولى في بيت جدّاي لأمّي، كان لديّ طقوس يومية في الاستيقاظ صباحًا وشرب القهوة مع جدتي ومن ثم متابعة أحد الأفلام المصرية خلال آدائها ليومياتها في المنزل. أكثر ما كان يشدّني في هذه الأفلام مشاهد الراقصات، الوجه المنفعل مع الموسيقى، جسدها الذي يتلوّن بآلاف التفاصيل وكنت لفترة طويلة أظنّ أن الموسيقى هي نتاج هذه الحركات وليس العكس. حبّي للرقص كان حاضرًا طوال سنوات عمري الأولى، أتذكّر أنّ والدي كان يقول لي من الأفضل أن تمتهني الرقص وربما قد نصبح أثرياء من هذه الموهبة.
لا أدري فعلا إذا ما كانت هذه موهبة، أو ربّما تحرّر مطلق للمشاعر حينها لم أدركه بل مارسته بعفويّة طفلة لم تفقه بعد حجم الخسائر التي ستلحق بها وبجسدها مع الوقت. إزدادت في فترة مراهقتي أزمتي مع هذا المعبد الذي لا يكفّ العالم من حولنا على قصّ أجنحته. ابتعدت عن الرقص كمن يرفض الاعتراف بمساحة أعضائه وانتشارها في الأفق. بدأت في تخطيط الحدود ووضعت نفسي أولُّا سجّانا لها وتوقفت عن الرقص دون أن أعي ما هي الأسباب. كنت حزينة ولجأت الى كافة أشكال اعتناق العزلة بين ما أشعر به وكيف أترجم هذا الشعور. كيف ولماذا؟ لا أدري كيف ولكن لماذا سؤال بسيط. كنت فتاة في الرابعة عشرة من العمر اكتشفت أنّني تعرّضت للتحرّش من الأقربين وصمتت جبنًا من الحكم عليّ أو خوفًا من تكذيبي أو ربما لما في ذلك من بساطة لأنّني اعتبرت أنّ هذا التحرّش نوع من أنواع الحب.
توقفت يومها عن الرقص. أقفلت بابًا تلوَ الآخر لحماية ما تبقى منه في عقلي ولم أعد اليه الا بعد سنوات. هذه العلاقة المربكة مع جسدي لسنوات طويلة كانت دائمًا مرتهنة بالآخر ونظرته اليّ واليه. لم أستطع يوما كشف معانيه ولا احتياجاته وككثيرات هربت منه كي لا أتواصل مع ما أشعر به حينها ولا أواجه هذه المخاوف التي تفرضها علينا مجتمعاتنا الأبويّة. حاجز الإحساس يكبر يومًا بعد يوم في بيئة منذ خلقنا ونتعلّم ألاّ نستكشف أعضاؤنا وحين نمسّها خلال فترة نضوجنا، نُهان ويفرض علينا الحظر من الوقوع في الخطيئة، من الرغبة والمتعة المحرّمة. نصبح علبًا جاهزة، حواجز إضافية يضعها من حولنا لنا، وتمنعنا حتى من التعبير كلامًا لما نريده فكيف لنا أن نعبّر بأجسادنا؟ مجتمعنا الأبويّ يوجّه رعايته المرضية لنا كلّ يوم ونحن نقع في مزيد من القسوة تجاه أجسادنا، نخنقها إلى أن نقتلها.
أنا أعترف أنّي قتلت جسدي مرارًا ولم أجد الخلاص إلا حين عدت الى الرقص مرّة جديدة. الرقص بالعموم هو لغة نستحضرها بشكل فطريّ منذ ولادتنا. لن أعود بالتاريخ للرقص وقيمته عند الشعوب الأصيلة ولا ارتباط الرقص بالتعبير عن الفرح، النصر، الحزن، الخسارة، الفقد، التضرّع لللآلهة، بل سأتحدث عن الرقص بالعموم أوّلا كمساحة التقاء بين ما يفصل عالمنا الخارجي والداخلي، هي تلك الإشارات التي توازي بين عالمين يربطهما الكثير من المشاعر والإيحاءات والأدوار التي نودّ ممارستها. الرقص الذي أتحدّث عنه هو تلك المادة الخام التي تختبر كلّ خصائصنا خاصة نحن كنساء. الرقص هو لغتنا الوحيدة التي لا يمكن تقييدها حقا بقواعد، هو لوحة أو سكيتش سياسيّ بامتياز يبرز آلامنا وجراحنا، كذلك تمرّدنا. لا إتقان هنا مطلوب، ولا استعراض لمهارات تعلّمناها في المدرسة أو الجامعة. الرقص لنا نحن النساء مساحة إختيار للبوح دون موسيقى أو إيقاع حتى. مساحة اختبار لمعاني نعيشها وربما نرفض عيشها.
حين عدت الى الرقص البلديّ، تتلمذت على أيدي راقصة في بيروت لمدّة عامين متواصلين. تعلمت الخطوات وتتبّع الإيقاع ولكن أذكر تماما ما قالته لي في الجلسة الأولى لنا:
الرقص هو ما تشعرينه، هو الاتصال بالواقع وليس الإنفصال عنه كما يدّعي كثيرون.
لم أفهم هذه الجملة الاّ بعد سنوات كثيرة. أذكر هذه اللحظة كما لو حدثت اليوم، في هذه اللحظة بالذات. موسيقى ضاجة وأعين تحاربني وتحارب كلّ النساء في هذه المكان. همسات حول ما نرتدي، كيف نتحرّك، ما نقول، وضحكات تفي بمعرفة أنّ هذا المجتمع الذكوريّ يخاف الجسد أكثر من الكلمة. الجسد تحدّي للكلمات، هو فعل يرمي كلّ الضوابط الخانقة ويوضّح كلّ ما يحدث حولنا دون ترتيب واضح ولا معرفة للخلفيات. الرقص هنا شكل يعدّ الأرض لاستعادة توازننا في بقعة تضع لأعضائنا هيكلية موحّدة بمختلف الوظائف. الرقص إدارة للواقع وسيطرة عليه ليس فقط بالمكونات المادية وإنّما أيضا بالبعد المعنوية. هو ملكيتنا المطلقة للتفرّد وبالوقت عينه هو لحمة جمعية لنا كنساء نتحدّي فيه الضعف الفردي لما يواجهنا من مخاطر.
أعود الى الأفلام الكلاسيكية العربية ومنها مشهد لسعاد حسني في خلّي بالك من زوزو، حين كانت ترفض الرقص لما عليه من وصمة اجتماعية لها ولعائلتها إلى أن تضطر للدفاع في لحظة من اللحظات عن هذا الإرث الذي جعل منها ما هي عليه. زوزو رقصت ألمًا ووزعت جسدها في المكان تعلن كسرها لما قيل ويقال عنها وعن مثيلاتها. زوزو كانت تحمل في هذه اللحظة شموخًا لا يمكن تجاهله والحضور سكت في حضرة حركاتها. الرقص البلديّ لنا نحن النساء تحديدًا هو تصميمنا الخالص على الحياة بمقاس أجسادنا المتنوّع وأرواحنا المتقاطعة بمعارك يومية نخوضها قد تؤدي الى قتلنا في كثير من الأوقات. الرقص ليس بدلة ولا تصميم حركيّ، هو احتفال وإشادة بأنّ ما نملكه ليس أكسسوارا في حياة الآخرين ولا أنثويّة مصوغة ضمن منظومة تعيقنا يوميا على تحقيق أحلامنا، وتنتزع حقنا في العيش كما نريد وكما نستحق. الرقص هو بداية الشغف، نعلو ونميل وننحني ونسقط ليتضح معنى وتظهر الروح. الرقص فلسفة وشجاعة في تحريك ما نخبّئه في طياتنا كفتيات يسبين، يقتلن، يغتصبن، يحملن سلاحا ويقاتلن. الرقص ليس دعوة كما يصاغ على الانحلال بل هو تحريض على الحب، حبّ ذاتنا، هويّتنا، ضدّ كلّ الموت المباح.