NO2TA Logo NO2TA Logo
لغتنا العربيّة…بين

لغتنا العربيّة…بين "نون" النسوة وجمع المذكّر السالم

"غرّدي"... هكذا أحيا "تويتر" جدل اللغة العربية وانحيازها ضد النساء في حزيران/ يونيو عام 2021، مخاطباً النساء، اللواتي ينشطن ويمتلكن نفوذاً كبيراً على المنصة في العالم العربي. "تويتر" كان أول موقع تواصل يُطلق ميزة تتيح مخاطبة المغرّدات بالصيغة العربية المؤنثة، إذ يُظهر مثلاً كلمة "غرّدي" بدلاً من "غرّد" و"استكشفي" بدلاً من "استكشف". الأمر الذي بدا لافتاً، خصوصاً أن خطوة المنصّة أتت لتعامل اللغة ككائن حيّ، فيما يرى فيها الأدباء وعلماء لغويين مادة منزلة عصيّة على التّغيير.

انحياز اللغة العربية ضد النساء قضية عمرها مئات السنين، طُرحت في مناسباتٍ عدّة من دون أي بوادر لمحاولة تعديلها بما يقلّل من إجحافها تجاه النساء. إذ تساوي اللغة العربية صرفياً بين الاسم العربي المؤنث والإسم الأعجمي، كما يمكن لرجلٍ واحدٍ أن يلغي مجتمعاً من النساء في تذكير الأفعال، حيث يُشار إلى هذا الجمع بصيغة المذكر. علماً أن العربية ليست اللغة الوحيدة التي تُغلّب المذكّر على المؤنث، إذ تلتقي أغلب اللغات عند هذه النقطة، لسببٍ قد يكون واضحاً، وهو أن واضعي اللغة وقواعدها على مرّ التاريخ هم ذكور. اليوم، ومع التحرّر من قيد سيطرة جنس على آخر، وإن بصورة نسبيّة، تعالت الأصوات المطالبة بالمساواة في اللغة أيضاً، الأمر الذي دفع بعض الكتّاب فعلاً للخروج عن هذه القواعد في كتاباتهم.

قد تبدو قضية انحياز اللغة العربية ضد النساء عامّة وثانويّة في ظلّ انتهاكات يومية تعيشها النساء في العالم العربي، إلا أن الأمر يمكن له أن يكون مستفزّاً ومُحرضاً، لا سيما للكاتبات والصحافيات اللواتي على احتكاكٍ مباشر مع لغة قد لا تُسعفهّن في حين، بينما تجحف بحقهن في أحيانٍ أخرى.

باسكال صوما هي إحدى هؤلاء النساء.

باسكال هي كاتبة في رصيدها روايتين (أسبوع في أمعاء المدينة – 2016) و(مورينيا – 2022) وكتابين شعر (تفاصيل – 2013) و(فاصلة – 2016). كما أنها صحافية حاصلة على إجازتين في اللغة العربية والصحافة من الجامعة اللبنانية.

استفزّ موضوع اللغة والجنسانية باسكال كونها على مقربة يومية من اللغة. "بتعاملي اليومي مع اللغة، أرى الإشكالية في التعامل مع النساء صرفياً ونحوياً، هذا عدا الإرباك والتعابير الذكورية المستخدمة"، تقول باسكال. وتضيف، "ما زال الإعلام بستخدم مفهوم "جريمة شرف" للإشارة لجريمة قتل زوج لزوجته، عدا أن العبارة فيها تبرير للجريمة، "الشرف" مفهوم متخلّف ومُهين".

هذه القضية دفعت الكاتبة إلى اختيار "اللغة العربية والجنسانية" عنواناً لدراستها العليا في اللغة. فكرّست باسكال وقتها لمراجعة المسار التاريخي لهذه الإشكالية، وخلصت إلى أننا "بصدد لغة التغيير فيها ليس سهلاً لأنهُ مرتبط بالدين والقداسة، فيما نرى لغات أخرى تطوّر نفسها عبر تطوير الضمائر والقواعد الصرفية والنحوية فيها لتتناسب مع النساء وحقوقهن".

ما حرّض باسكال على تناول اللغة وميلها الذكوري، كان دافعاً لآخرين وأخريات عبر التاريخ لخوض هذا الجدل. إذ لا يزال الوقوف أمام كلمات مثل "نائبة" أو "قاضية" أو "حنونة" يستغرق وقتاً ونقاشاً وآراءً متباينة، في كتابة المواد الصحافية والأدبية أو في كتابة بيان أو قرار إداري في دولة عربية ما، وغالباً ما ينتهي النقاش إلى اختيار أهون الشرّين وكتابة "نائب" للدلالة على امرأة. فخطأ بحقّ النساء ونضالهن عبر السنوات قابل للغفران، أما زيادة "تاء مربوطة" فهو أمر منوط بعوائق ويتعارض بنظر البعض مع قواعد وضعها الأنباري أو سواه، فهذا خطأ لا يُغتفر!

كتبٌ عدة ناقشت مسألة انحياز اللغة العربية ضد النساء، أبرزها "المرأة واللغة" لعبدالله الغدّامي، الذي قال إن "شروط جمع المذكر السالم مقابل شروط جمع المؤنث السالم متحيّزة ضدّ المرأة".

أما ابن الأنباري، قال في كتابه "البُلغة" إن "أصل الأسماء التذكير، أما التأنيث فهو ثانٍ لها". وفي السياق نفسه يقول سيبويه، وهو أوّل من بسّط علم النحو، "الأشياء كلها أصلها التذكير، ثم تختص". ويجاريه في ذلك أبو علي الفارسي، كذلك يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه الهوامل، "كل مؤنّث أصله مذكّر في اللغة العربية". أما إذا عدنا إلى مقولة ابن جنّي، "كون التّذكير هو الأصل"، ندرك أنّ الكتاب الذي وضعته نوال السّعداوي "الأنثى هي الأصل"، جاء ردّاً على مقولته، الأمر الذي يؤكّد أن البحث في تطوير اللغة وقواعدها لا يزال خاضعاً لسلطة فقهاء الماضي. علماً أن هذه الإشكالية لا ترتبط باللغة العربية فقط. إذ قاد أساتذة فرنسيون عام 2017، حملة جمعوا خلالها نحو 27 ألف توقيع في عريضة تطالب بإلغاء قاعدة التذكير والتأنيث في اللغة الفرنسية باعتبارها تحيّزاً ضد النساء. إلا أن الأكاديمية الفرنسية وقفت بوجه هذه الحملة التي قادها حوالى 300 أستاذ، معتبرة في ذلك "تهديداً للغة الفرنسية بالموت والانحسار" و"هجوماً عليها وهدماً لقواعدها". حتى أن الجدل بشأن اللغة وتغيير قواعدها وصل إلى مؤسسات الدولة، فأصدر رئيس الوزراء حينها، إدوار فيليب، مذكّرة تمنع إلغاء التذكير والتأنيث في المراسلات الرسمية، جاء فيها أن "صفة التذكير حيادية يمكن استعمالها لتشمل المرأة".

وعليه، فإن هالة القداسة المُرافقة للغة، ومحاولات السعي إلى الحفاظ على دلالتها المذكّرة، ما هي إلا مزيداً من تكريس تكلّس اللغة الذي يعكس بالضرورة تنامي الفكر المناهض لحقّ النساء.

مقالاتنا