مشينا ورشاش الفلفل في جيوبنا النساء لسن آمنات في الأماكن العامة
من الصادم أن النساء يمشين حول العالم خطوات أقل من الرجال، ففي دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2017، والتي حلّلت بيانات الهواتف الذكية لأكثر من 717000 شخصاً في جميع أنحاء العالم على مدار 68 مليون يوم من النشاط، وصلت إلى نتيجة أن النساء يمشين بالفعل أقل من الرجال، رغم أنهنّ أقصر من الرجال ما يعني أرجل قصيرة وخطوات أكثر، وهو أمر أثار استغراب الفريق، وحول السبب قال تيم ألثوف، الباحث الرئيسي في الدراسة: "إذا كان هناك شخص واحد لا يمشي كثيراً، فربما يكون كسولاً، إذا كان مئات الآلاف من الناس - وخاصة النساء - لا يمشون كثيراً؟ هذه ليست مشكلة كسل فردية، إنها مشكلة مجتمعية"، لكن ما فاجأ الباحثين هو مدى اختلاف هذه الفجوة بين الجنسين من بلد إلى آخر، مع ما يترتب على ذلك من عواقب سلبية على النساء وصحتهن. تسلّط نتائج الدراسة الضوء على علاقة النساء والأماكن العامة، ومدى حريتهن في الخروج، وإذ ما سألنا النساء من حولنا عن عاداتهن بالمشي ولماذا قد لا يفضلن المشي، فسوف يظهر أمر أساسي مشترك بيننا جميعنا، وهو السلامة الشخصية.
أداة حادة ورشاش فلفل
لا يتعلق الأمر بالمشي وحده، تمتلك النساء في معظم المجتمعات العربية مساحات قليلة ومحدودة للخروج، بينما يشغل الرجال المساحات العامة إلى حد كبير، ويتمتعون بسلطة فيها. يبدأ افتقار الفتيات للمساحات الآمنة باكراً، إذ تفرضُ معظم المجتمعات العربية قيودًا على الفتيات، ويُمنعن في بعض المدن من استقلال المواصلات العامة بمفردهن أو الخروج للتنزه، ويبقيهن الآباء أو يفضلون بقائهن في المنازل، خوفاً من أي تواصل مع الرجال الآخرين أو تعرضهن للتحرش.
نتذكر، كنساء وفتيات، عشرات القصص للحظات شعرنا بالخوف فيها ونحن في الأماكن العامة، سواء كان يحيط بنا العشرات أو في أماكن أخرى لا أحد فيها، في الشوارع والمولات والدوائر الحكومية والمطاعم والمواصلات العامة، ننظر خلفنا، جانبنا أو حولنا، نسارع الخطا أو ندخل محلاً هرباً من شخص نشك أنه يتبعنا.
تتنوع الانتهاكات بحق النساء والفتيات في الأماكن العامة، ابتداءً من العبارات والملاحظات الجنسية وصولاً إلى اللمس والاغتصاب وحتى القتل، فبات مقتل فتاة أمام جامعتها أو في الشارع لرفضها شاباً خبراً شبه يوميّ، كل هذا يحدث على مرأى الجميع في الأماكن العامة، حيث تبقى النساء خائفات ومستعدات لمواجهة خطر محتمل أو هجوم أو يد تمتد فجأة نحو أجسادهن . تحمل العديد من النساء والفتيات من حولي أداة حادة أو رشاش الفلفل لحماية أنفسهن، وعلى عكس العنف في المنازل، ما زال يستهان بالانتهاكات ضد النساء في الأماكن العامة.
لا تشعر النساء بالأمان في الخارج كما الرجال، وهذا ما يجعل عالمهن أضيق وخريطة الأماكن العامة لديهن محددة بدقة، ما يدفعهم في كثير من الأحيان لتغيير سلوكهن، ومخططاتهن تبعاً للأماكن التي يودّن الذهاب إليها، وبينما يتوجب أن تعزز الأماكن العامة الاتصال الإنساني والمشاركة المجتمعية وأن تعكس الثقافة المحلية، يحدث العكس ولا تشعر النساء بالترحيب في الأماكن العامة.
في استطلاع أجرته مؤسسة طومسون رويترز عام 2017، وُجد أن القاهرة هي "أخطر مدينة كبرى في العالم بالنسبة للنساء"، ووجدت دراسة أجرتها الأمم المتحدة في عام 2013 أن 99.3% من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي، لكن الأرقام الرسمية العام الماضي قالت أن أقل من 10% من النساء تعرضن للتحرش الجنسي، وهذا يعني عدم الاعتراف الرسمي بحجم الكارثة التي تحدث على الأرض وهو حال الكثير من الدول العربية، التي تغطي قوانينها وحكوماتها على واقع مخيف ومرعب تعيشه النساء.
الرجال لا يفسحون الطريق للنساء
المدن مصممة في الغالب من قبل الرجال، وهذا يعني أنها لا تأخذ احتياجات النساء وسلامتهن على محمل الجد، على سبيل المثال: لا تمنح تصاميم المدن الأمهات فرصاً لتسهيل خروجهن مع أطفالهن، سواء من خلال وجود أماكن مخصصة لعربات الأطفال أو أماكن لإرضاع الأطفال طبيعياً، فتضطر الأمهات للدخول إلى مطعم أو مقهى وطلب شيء ما تشربه ريثما ترضع طفلها، وليس بالضرورة أن ترغب الأم في شرب القهوة لكنها تحتاج فقط بعض الخصوصية لترضع صغيرها.
من جهة أخرى، هناك شعور عام لدى الرجال بأن الأماكن العامة ملكهم ولهم سلطة عليها، هذا الشعور يأتي من حقيقة أن مصممي المدن هم رجال ، في عام 2017 أجرت كيمبرلي ترونج تجربة اجتماعية، قررت المشي في الطريق لمدة أسبوع دون الابتعاد عن طريق المشاة القادمين من الجهة المقابلة، ووجدت أن الرجال عموماً اختاروا متابعة الطريق دون إفساح المجال لها وتوقعوا أن تتحرك النساء حولهم، تشير التجربة الصغيرة إلى شعور متأصل لدى الرجال بأنهم يمتلكون الأماكن العامة والمدن، جاء هذا الشعور نتيجة استحواذهم على الفضاء العام لمئات السنين، إذ يعتبرون أن النساء هن وافدات جدد إلى مساحاتهم، وهو الأمر ذاته الذي يحصل حين تقود امرأة سيارة في بلدان ليس شائعاً الأمر فيها، تتعرض النساء خلال قيادتهن للسيارات للكثير من المضايقات ويتعمد بعض الرجال إخفاتهن من خلال القيادة باتجاهن وإيهامهن أنهم سيصطدمون بهن.
وتبقى الدول العربية في مقدمة دول العالم من حيث هضم حقوق النساء والتضييق عليهن، في دراسة عدد الخطوات المذكورة في البداية، لم يجد الباحثون أي فجوة في الخطوات التي يمشيها الجنسين تقريباً، في بلد مثل السويد، حيث يسير الرجال والنساء تقريباً نفس متوسط عدد الخطوات كل يوم، لكن في دولة مثل قطر كانت النساء يمشين خطوات أقل بنسبة 38% يومياً في المتوسط من الرجال.
الحرب تقضي على ما تبقى من مساحات للنساء
تزيد الأزمات السياسية والحروب من معاناة النساء العربيات، وبحسب دراسة نشرها برنامج الأمم المتحدة للتنمية، فالنساء في المنطقة العربية أكثر حرماناً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً من النساء في المناطق الأخرى، لدرجة أنهن أكثر حرماناً من الأخريات في المناطق ذات مستويات الدخل المماثلة أو في مراحل مماثلة من التنمية الاقتصادية، مثل أمريكا اللاتينية، جنوب شرق آسيا، شرق آسيا.
يزيد الأمر صعوبة في بلدان تطحنها الحروب والأزمات مثل السودان واليمن وسوريا والعراق وتغدو إمكانية وصول النساء إلى الخدمات أو وسائل الترفيه مستحيلة، في السياق السوري أصبحت النساء السوريات أكثر عزلة وتم تقليل تنقلهن للحد الأقصى بسبب الخوف من التعرض للعنف الجنسي أو الهجمات أو التحرش والانهيار الاقتصادي، بخاصة بعد انتشار الجماعات المتطرفة التي فرضت على النساء قيود صارمة، بالإضافة إلى الفلتان الأمني الذي جعل من تنقل النساء أو عودتهن وحدهن في المساء أمراً شديد الخطورة، دون أن ننسى أن اللاجئات السوريات في دول الجوار لا يمتلكن مساحات آمنة للتنقل، فيعتبرن غريبات وقد يكون لدى المجتمعات المضيفة اعتقاد بأنهن يستهلكن موارد المجتمع المضيف.
تغيب المساحات العامة للنساء في دول متل اليمن وسوريا، ويوجد بدل منها مساحات آمنة صغيرة، تنشأها المنظمات الدولية والجهات التي تُعنى بالنساء وهكذا ننتقل إلى مستوى أقسى من فقدان الفضاء العام وإمكانية الوصول إليه، فتتجه النساء للبحث عن مساحات صغير آمنة تلتقي فيها بنساء أخريات وتتلقى خدمات مادية ومعنوية تساعدها على المواصلة.
مدينة بوجه أنثوي
إن خروج النساء إلى المساحات العامة ليس ترفاً، إنما حقٌّ وضرورة تنعكس نتائجها على المجتمع بأسره، بحسب “Smart City Dive” وهو موقع مختص بالأخبار والاتجاهات الأكثر تأثيراً في تشكيل المدن والبلديات، فإن عدد النساء اللواتي يظهرن في المجال العام، أثناء النهار، وبخاصة في الليل، هو مؤشر على صحة المجتمع وسلامة المدينة وقابليتها للعيش، وكلما تم تصميم البيئة المبنية مع أخذ النساء في الاعتبار، كلما شعرت النساء بالأمان والترحيب والراحة في استخدام الأماكن العامة وأصبحت المدينة أكثر ملاءمة للعيش فيها للجميع.
اليوم نحن بحاجة لجعل الأماكن العامة أكثر أماناً للنساء والفتيات، ولابد من إشراك واستشارة النساء في تخطيط المدن وزيادة دورهن في التخطيط الحضري، ولا يمكن تغيير تخطيط مدن كاملة وكبيرة بين ليلة وضحاها، لكن يمكن خلق تعديلات تساهم في مساعدة النساء في الشعور بمزيد من الأمان، كتوفير الإضاءة الجيدة في جميع الشوارع، تجدCollective Point 6 وهي مجموعة من المهندسين المعماريين وعلماء الاجتماع والمخططين الحضريين النسويين الذين يحاولون بناء المساواة في شوارع برشلونة منذ حوالى عشر سنوات، أن الرؤية هي المفتاح، كلما كانت الرؤية واضحة والأماكن مضاءة جيداً ستشعر النساء بأمان أكثر، أما بالنسبة للعقارت سواء كانت تجارية أم لا فيجب أن تكون شفافة أن يمكن رؤية ما في الخارج، وتوصي المجموعة بألا يزيد ارتفاع الغطاء النباتي عن متر واحد، حتى يظهر ما خلفه، وأن يتم الحفاظ على طول معين للأشجار حتى لا تحجب الرؤية أو الإضاء، وضمان أن تكون جميع مداخل المباني السكنية الجديدة على مستوى الشارع و تجنب إنشاء أماكن للاختباء.
الأمر بالتأكيد أكبر من مجرد تأمين وسائل سلامة النساء، أو تغيير العمارة الحضرية، إذ أن السؤال الرئيسي هو: لماذا النساء في خطر في الأماكن العامة وكيف يمكن إيقاف هذا الخطر؟ ليست المشكلة الأساسية في تصميم المدن أو قلة الإضاءة وما إلى هنالك والتي هي حلول مؤقتة، المشكلة في مجتمعات تعتبر خروج النساء متنافياً مع طبعها، وتنظر إلى المساحات العامة كفضاء ذكوري، وتعتبر خروج النساء خطراً عليهن لأنهن يصبحن منتهكات.
إحدى التجارب الفريدة في التخلص من الرمزية الذكورية للمساحات العامة هي في العاصمة النمساوية فيينا، حيث تم إنشاء حي اسمه أسبرن سيكتمل إنشاؤه في عام 2028 ويعتبر واحداً من أكبر التطورات الحضرية في أوروبا، ورغم أن الحي مصمم ليناسب العائلات بشكل مثالي إلا أن خُطط ليمتلك هوية جندرية، حيث تمت تسمية جميع الشوارع والأماكن العامة بأسماء النساء وجاء في الكتيب الرسمي الذي يعرض إنجازات هؤلاء النساء، أن "أسبرن لها وجه أنثوي" والحي محاولة لخلق ند لمدينة فيينا التقليدية حيث سمي 3750 شارعاً فيه بأسماء رجال.
يجب التخلص من الرمزية الذكورية للأماكن العامة، وتربية الأجيال القادمة ليؤمنوا بضرورة إفساح الطريق أمام الفتيات وبأهمية وجود النساء في الخارج وحقهن في الترفيه والتنزه دون خوف أو حمل علبة الفلفل في حقائبهن.