لا تضحك جميع النساء وهي "تأكل السلطة"
من المؤسف أننا في الصغر نتعرف على أجسادنا عبر أجساد الأخريات. لا أذكر المرة الأولى التي التفتُّ فيها إلى جسدي ربما كنت أحصل عليها فقط عند الوقوف على ميزان قياس الوزن. لم أنظر إلى نفسي في المرآة، كانت فكرتي عن جسدي محصورة برقمين ونتيجة أحصل عليها بعد أن أخلع حذائي وأضعه جانبًا ثم أصعد على الميزان مرة أخرى، لا ترضيني النتيجة فأخلع معطفي وأضعه بقرب حقيبتي ظناً أنها تزيد بعض الكيلوغرامات، ثم خارج المستوصف في المدرسة تنتظرني زميلتي"سهى" لتعرف النتيجة التي ربما ستزيد ثقتها بنفسها حين تكتشف أنني ازددت خمسة كيلو هذه المرة . كنت دائماً أخفي النتيجة و أحياناً أقول أن وزني لا زال ثابتاً منذ أشهر، في تلك الفترة لم أفعل شيء حياله، تعنيني وجبات الطعام، لم أكن أكترث لأنني لم أنظر إلى جسدي لأرى "العيوب" التي تظهر في الميزان، لكنني كنت أنظر إلى أجساد الأخريات حين نزور "ميرا" المحظوظة بامتلاك عائلتها تلفاز يعرض القنوات الفضائية، فكانت مهووسة بمشاهدة عروض الأزياء وأنا كنت أشاركها هوسها فقط عند الزيارة.
نجلس سويًّا ناكل الفشار، بينما تحلم "ميرا" بأن تصبح واحدة من العارضات اللواتي نشاهدهنّ في التلفاز، وخطوتها الأولى نحو ذلك كانت بتخطّي وجبة العشاء ورمي سندويشة الجبن في المدرسة والإكتفاء بشرب العصير، وهذا كان سرّها الذي حفظته معي. حين كبرنا، احتاجت "سهى" إلى علاج طبّي طويل لم أكن أعرف ما سببه، لكنها اليوم تعمل عارضة لعدة مَحالٍ تجارية.
لم تعنيني العارضات في تلك البرامج لكن ربما تلك الشقراء التي كانت تظهر كثيراً في كل المجلات التي كنت أتصفحها عند زيارتي لصالونات التجميل مع والدتي، كانت تلفتني أكثر، كانت جميلة ونحيلة جداً، ربما هذه الصورة الوحيدة التي امتلكتها عن الجسد قبل أن أكتشف أنه من الجميل أن نختلف وأن نتخلى عن الأزياء الفضفاضة ونقول نحن جميلات حتى ولو لم نمتلك قوام "كيت موس".
"كيت موس": لم يكن ليمرّ اسم تلك المرأة دون أن تتفقد الفتيات والنساء أردافهن وبطونهن في تلك الفترة. فقد خرجت صاحبة القوام النحيل لتقول للنساء والفتيات "nothing tastes as good as skinny feels "، في مقابلة لها عام 2009، لتثير جدلاً كبيراً وخاصة بين المجموعات التي تقود حملات الصحة النفسية واضطرابات الأكل. إحدى هذه الحملات التي أطلقت في نفس العام كانت لكاتي غرين عارضة الأزياء السابقة تحت شعار " say no to zero size"، وقالت الصحف أيضاً في العام نفسه أن هناك 1.1 مليون شخص يعانون من اضطراب في الأكل في المملكة المتحدة وحدها، ومن المرجح أن تسبب تصريحات كيت موس المزيد.
مؤخراً خرجت عارضات الأزياء السابقات للتحدّث عن تجاربهن ومعاناتهن للحفاظ على مكانتهن في مجال صناعة الأزياء وعن سر الحفاظ على "zero size"، إحداهن كانت عارضة "victoria's secret" السابقة بريدجيت مالكولم التي صرحت أن بعض الوكالات التي عملت لصالحها كانت تطلب منها أن تتعاطى الكوكايين وأن تمارس الجنس بكثرة لإنقاص وزنها عندما كانت دون السن القانونية، ما جعلها تعاني من القلق الشديد والاضطراب في الأكل anorexia واضطراب ما بعد الصدمة لفترة طويلة. إلى جانب الكوكايين، كشفت عارضة الأزياء بريا ميرفي البالغة من العمر 23 عامًا، مؤخرًا في برنامج Good Morning America أن الضغط من أجل أن تكون مثاليًا يدفع بعض زميلاتها في العمل إلى تناول كرات القطن لدرء الجوع وقد وافقتها عارضات أخريات في تصريحات مشابهة، ما أثار قلق الجمعية الوطنية لاضطرابات الأكل "the National Eating Disorder Association" التي أكدت أنه لا ينبغي اعتبار تناول عارضات الأزياء القطن نظامًا غذائيًا ، فالأمر يستدعي التدخل بشكل عاجل، ولا يمكن اعتبار ما يحدث فقط في إطار الحفاظ على الوزن بل أيضاً قد يدل على أمراض نفسية وعقلية محتملة.
تعزّز وسائل الإعلام والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي فكرة أن الأجسام الممتلئة وغير المتناسقة سيئة وأن هناك نوعًا واحدًا مثاليًا من الأجسام يجب علينا جميعًا امتلاكه. وقد ربط الغرب منذ قرون الجسد بالمرأة في حين ارتبط العقل بالرجل، فيتم استهداف النساء بشكل خاص وتحميلها ثقل سنوات من الأعراف الجنسانية التي تتوقع من المرأة أن تبدو بطريقة معينة من أجل تصنيفها "جذابة " وتتناسب مع معايير المجتمع الذي تعيش فيه. وقد أشارت الفيلسوفة النسوية الحديثة سوزان بوردو في كتاباتها بتفصيل الطبيعة بين العقل/الجسم من خلال فحص فلسفات أرسطو، هيجل وديكارت، إلى أن مفهوم الجسم (وليس العقل) المرتبط مع المرأة بمثابة مبرر لنرى النساء ممتلكات وأشياء، وسلع قابلة للتبادل (بين الرجال). على سبيل المثال، أجساد النساء تم تجسيدها عبر التاريخ من خلال الموضة، النظام الغذائي، التمارين، جراحة التجميل، الإنجاب، الخ. وهذا يتناقض مع دور الرجل كمسؤول أخلاقي، مسؤول عن العمل أو القتال في الحروب الدامية.
ويمكن ملاحظة التغيير في معايير الجمال والأجساد المثالية عبر العصور خلال المنحوتات والتماثيل والرسومات التي تم اكتشافها, بداية مع الإغريق الذين كانوا يفضلون المرأة التي تمتلك جسد يشبه الكمثرى، وأرداف منسابة وعريضة، وصدر متماسك، وأذرع بيضاء وسيقان طويلة، وقد ظهر ذلك في تمثال آلهة الجمال "أفروديت" , وأيضاً نساء السابين -وهي قبيلة إيطالية قديمة عاشت في شمال شرقي روما بعد أن هزمها الرومان في معركة ثرموبيلاي. قد ظهرت نساؤها في إحدى اللوحات التي رسمت عن تلك الحقبة للفنان الإيطالي بيترو دا كورتونا، شأنهن شأن نساء العصور الوسطى، يتمتعن بدرجة من البدانة التي كانت في تلك الفترة أبرز معايير الجمال الأنثوي؛ فبدانة المرأة كانت علامة على خصوبة الجسد الأنثوي وصلاحيته للحمل والرضاعة، على عكس اليوم إذ تعدّ دهون منطقة البطن "كرشاً" وإضافة قبيحة يجب التخلص منها للحفاظ على القوام الممشوق و "flat belly ". لا يمكن حصر جميع المعايير التي فرضتها الحضارات المتعاقبة في نص واحد لكن يمكن التأكد أنه يتم الفرض على النساء أن تمتهن التحكم بشكل أجسادهن وكأن الأمر بسهولة صنع تلك اللوحات والتماثيل ويجب أن تبرع في نسخ جسدها كما يطلب منها المجتمع.
وإن تحدثنا في بداية النص عن كيت موس، وعن السنوات العديدة من الهوس بموضة الجسد النحيل ظهرت لعنة آل كارداشيان وجينرعلى النساء لتطلب منهن أن يسعين إلى الجسد "curvy" مثالي.ويمكن ملاحظة تأثير هذه العائلة في صعود الجراحة التجميلية، وفي عالم منتجات التجميل، في مبيعات المجلات، وفي المناقشات العلمية. فعندما اجتاحت صورة كيم كارداشيان الإنترنت في عام 2014 من خلال صورة لغلاف مجلة Paper ، أصبح الهوس بامتلاك مؤخرة مشابهة لتلك التي تمتلكها كارداشيان في الصورة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بازدياد الخضوع لعمليات وحقن لشد المؤخرة، ووفقًا للجمعية الأمريكية لجراحي التجميل ، زادت هذه العمليات بنسبة 256 بالمائة بين عامي 2000 و 2018. واليوم بعد تثبيت تلك المعايير لسنوات تعود العائلة ذاتها لتطلق على النساء تريند جديد عبر سعيهن للحصول على جسد نحيل، وقد ظهر التحول بأجسادهن أكثر بالفترة الأخيرة خاصة كلوي وكيم فبدا أنهما قد خسرتا الكثير من الوزن. في إحدى حلقات البث تظهر كلوي شقيقة كيم وهي تتحضر لارتداء ملابسها لحفل Met Gala وعندما قام المصممون بشد مشد حول خصرها "corset"، اعترفت كلوي أنها"لا تستطيع التنفس ، لكن هذا جيد" ، لترد عليها كيم: "لست بحاجة إلى التنفس" بعد أن مدحت خسارتها لوزنها ووصفت ذلك بأنه "جميل". إضافة إلى ذلك يمكن ملاحظة عودة الجينز والتنانير القصيرة منخفضة الارتفاع من الخصر العام الماضي نذيرًا لعودة وشيكة أخرى لموضة "skinny bodies", مرة أخرى. فمتى سنتوقف عن ربط أجساد النساء وأشكالها بـ "تريند". ومتى سيتم التعامل مع الأمر بجدية بعيداً عن صورة مُعدلة تُنشر على غلافات المجلات أو مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً متى سيلتفت أولئك إلى أن هناك 10,200 حالة وفاة سنوياً نتيجة مباشرة لاضطراب الأكل - أي حالة وفاة واحدة كل 52 دقيقة وفقاً لما نشره موقع منظمة ANAD المختصة باضطرابات الأكل .
ربما على منصة فيسبوك أن توفر لنا أيضاً نحن النساء تحديث "marked safe during the new trend". فنحن علينا أن ننجو هذه المرة أيضًا . لقد كان لنا في أعوام المراهقة الأولى كيت موس، وكان للجدّات ظاهرة "تويغي" ثم الكارداشيانز. ربما سننشر جميعنا يومًا ما صورة مع طبقنا المفضل ونحن نرتدي فستانًا يظهر مفاتننا من دون أن يتم تقييمنا وفقًا لموضة الجسد الرائجة. ربما لا نريد أن نتخلص من ذلك "الكرش"! وربما نريد أن نظهر بابتسامة ورضا، فصدقوني لا تضحك جميع النساء وهي تأكل السلطة. ويمكن أيضًا أن ننشر قريباً "دليلك سيدتي لتنجي من الموضة الجديدة"، وحتى ذلك الوقت ربما علينا أن نلغي متابعة هؤلاء "المؤثرات" ونستمتع بوجباتنا الشهية.